طارق ترشيشي
لعل ما يثير الاستغراب في هذه المرحلة هو ندفاعة فريق الأكثرية في اتجاه تأجيج الحالة السياسية في لبنان وإضرام الساحة بشرارة مشروع نظام المحكمة ذات الطابع الدولي، الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من خلال تكرار سيناريو إقراره في المرحلة الأولى الذي أدى يومها إلى اعتكاف الوزراء الشيعة في كانون الأول الماضي، وكأن تحديد جلسة مجلس الوزراء اليوم الاثنين، كان عن سابق تصور وتصميم لإخراج الكتلة الشيعية من المشاركة الحكومية بعد إحراجها، وخصوصاً إحراج رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي كان رئيس الحكومة فؤاد السنيورة قد أعطاه ضمانات بأن يُدعى مجلس الوزراء إلى جلسة تعقد الخميس المقبل لدرس مشروع المحكمة، كما لإحراج رئيس الجمهورية إميل لحود، من خلال دعوته إلى هذه الجلسة كأحد الوزراء المشاركين، لا كرئيس للجمهورية.
وإذ لم تبرر الأكثرية ماهية الظروف والأسباب الضاغطة عليها والمانعة لها من تأخير الجلسة إلى الخميس المقبل، تفيد المعلومات بأنها تريد الهروب من مأزق تخشى الوقوع فيه، نتيجة تصادم يكاد أن يحصل بين أطرافها، وخصوصاً بين «محور الحريري ــ جنبلاط» و«محور جعجع»، بعدما شعر الأخير بأنه خارج التسوية المفترضة، عندما أبدى في جلسة التشاور الثالثة الخميس الماضي اعتذاره عن عدم المشاركة في جلسة أول من أمس السبت لـ «أسباب خاصة»، ثم عاد وحضرها بعد اتصالات أجراها مع بعض الجهات الضاغطة على رئيس كتلة «المستقبل» سعد الحريري ورئيس «اللقاء الديموقراطي» وليد جنبلاط، ونجح من خلالها في دفعهما إلى التنصل من «التسوية ــ المقايضة» التي كان قد تحدث عنها الوزير مروان حمادة، عندما زار بري أخيراً وقال إنه نقل إليه اقتراحاً بإقرار مشروع نظام المحكمة ذات الطابع الدولي مقابل «الثلث المعطِّل».
وبالفعل تراجع الحريري وجنبلاط عن هذه «المقايضة» عبر بيان «المصدر في 14 آذار» الذي وُزِّعَ عشية جولة السبت التشاورية، على طريقة تراجع الحريري عن «اتفاق الرياض» مع حركة «أمل» و«حزب الله» ، وتراجعه ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة عن المبادرة السعودية الأُولى. إذ أُلزِمَ الحريري وجنبلاط إعادة الالتحام مع جعجع، علَّ الخطة الأميركية الهادفة إلى استيعاب العماد ميشال عون، تنجح عبر تقديم بعض التنازلات له، التي يمكن استرجاعها لاحقاً، بدل تقديم تنازلات لا يمكن استرجاعها. وقد فوجئ بري بأن قرار فرط «طاولة التشاور»، اتُّخِذَ في خلوة عُقِدَت «على الواقف» على هامش جلسة السبت بين السنيورة والحريري وجنبلاط وجعجع، والغاية منه دفع الكتلة الشيعية إلى أحد خيارين: إما المصادقة على مشروع نظام المحكمة الدولية كعنوان من دون الدخول في التفاصيل، وإما الاستقالة من الحكومة لإخلاء الساحة الحكومية أمام الأكثرية لممارسة «ديكتاتورية الأكثرية» باسم الديموقراطية.
وقد غاب عن ذهن الأكثرية، وفق المصادر العليمة، أن انسحاب إحدى الطوائف الكبرى من الحكومة يسقِط دستوريتها، على قاعدة أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، فضلاً عن عدم قانونية أو دستورية أي جلسة تعقدها في هذه الحال، وخصوصاً بعد اعتراض رئيس الجمهورية خطياً على انعقاد مجلس الوزراء اليوم لمناقشة أمر هو من صلاحيته وفق المادة 52 من الدستور، التي تعطيه صلاحية المفاوضة في المعاهدات الدولية، وهو ما يوحي أن الأكثرية تقوم بـ«انقلاب غير دستوري» بأدوات حكومية، استباقاً لانقلاب مفترض في الشارع تتهِم به المعارضة، وهو ما قد يُشرِّع الباب أمام المعارضة للتحرك حفاظاً على الدستور والمشاركة وعلى المؤسسات، في مواجهة سعي الأكثرية إلى «ابتلاع الدستور والمؤسسات». كما يعطيها حافزاً إضافياً على العمل لـتحقيق حكومة وحدة وطنية بالطرق السلمية الديموقراطية، مع محاذرة أن تُستَدرَج إلى تنفيذ خطة الأكثرية الهادفة إلى دفع البلاد نحو اضطراب أمني، تلجأ بعده إلى طلب تدخل الأمم المتحدة لـ «حمايتها» لتعذُّر إمكان إصدار «تعليمات التدخل» إلى القوى العسكرية القادرة، وفي مقدمها الجيش، وهو ما قد يحول القوة الدولية (اليونيفيل) قوة متعددة الجنسية، وتصبح مهمتها قوة تدخل تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذا ما كان قد «تنبأ» به جعجع في حواره الأخير مع محطة «نيو. تي. في». ولعل ما يلفت أنظار المهتمين هذه الأيام، تحليق طوافات قوة «اليونيفيل» فوق عمق الأراضي اللبنانية الجنوبية، وليس فوق البحر، خلافاً للعادة في رحلاتها بين مطار بيروت ومقر قيادتها في الناقورة. وهذا ما يدل على أن الجنوب صار مجالاً جوياً لرحلات يومية دولية، هي بمثابة دوريات جوية غير معلنة لجس نبض المقاومة، وكمناورة للتصوير والمراقبة الجويين، تعويضاً عن الطلعات الإسرائيلية التي تضغط واشنطن لوقفها، لكونها تُحرِج حكومة السنيورة، كما تؤمن المراقبة الأمنية لـ«اليونيفيل» على المقاومة من الجنوب وصولاً إلى بيروت. وفي حال عدم الاعتراض على هذه الطلعات فستتكثف يومياً في مرحلة أولى، استعداداً للآتي من بنود خطة الأكثرية.
هل تنجح الأكثرية في انقلابها غير الدستوري؟ وهل تنجح في استدراج «اليونيفيل» إلى الساحة الداخلية؟ أم أنها ستصل إلى نقطة «على نفسها جنت براقش»؟