جوزف سماحة
حقّقت جلسة مجلس الوزراء أمس «إنجازاً»: الموافقة بالإجماع على نظام المحكمة الدولية الخاصة وإعادته إلى مجلس الأمن. ولقد احتفى المتحدثون باسم الحكومة بهذا العمل بلغات متفاوتة تخاطب اللبنانيين جميعاً، أو تشرح حيثيات القرار وتتوجّه إلى الوزراء المستقيلين (البيان الوزاري يسمّيهم «الوزراء المتغيّبين»)، أو توضح السند الدستوري لانعقاد الجلسة. كان المشهد سوريالياً بعض الشيء لأنه قائم على التجاهل الكامل للأزمة الحادة التي تضرب البلاد.
«الإنجازان» الفعليان لجلسة أمس هما في مكان آخر. الأول هو قضم ما بقي من صلاحيات رئيس الجمهورية. الثاني هو القفز فوق ضرورة تأمين توافقات وطنية عامة على خطوات بمثل هذه الأهمية. ويلتقي هذان «الإنجازان» عند كونهما طعنة مزدوجة توجّه إلى «اتفاق الطائف» وتأتيه من جانب طرف يدّعي التمسّك به ويرفعه شعاراً لبرنامجه السياسي.
لقد تأكد أمس أن «الطائف» في ذهن بعض المنادين به هو، بالضبط، ما جرى تطبيقه أيام «الوصاية السورية». ففي تلك الأيام كانت الخروق تصل إلى الذروة وكان يدافع عنها باستهتار. لنا في قوانين الانتخابات السابقة أمثلة على ذلك. ولقد تأكد أمس، لمن يريد برهاناً جديداً، أن آليات عمل نظام الوصاية لم تتغيّر وأن الورثة المفترضين لا يتردّدون في الاستهتار نفسه في علاقتهم بسائر المواطنين. لم يفعلوا سوى تغيير اسم «القضية المقدسة» التي تجيز أنواع التجاوزات وتشكل غطاءً لممارسة سلطوية فئوية.
انعقدت الجلسة أمس بعد أيام التشاور. وفيما كان مقدراً التوجّه نحو تعزيز قاعدة المشاركة في السلطة، انتهى التشاور إلى فشل لا يغيّر منه عرض توسيع الحكومة من دون تغيير التوازن ضمنها. ولما تأكد أن الفشل حصل جرى الاندفاع إلى الأمام من أجل تقليص قاعدة المشاركين في الحكومة والارتضاء بوزارة قد تكون الأقل تمثيلاً منذ فترة بعيدة.
لقد تعمّقت الأزمة أمس. ويكاد يكون مضحكاً ما يقال عن عدم قبول استقالة الوزراء الشيعة (إضافة إلى يعقوب الصراف). يراد لذلك أن يبدو كأنه تصرّف مسؤول ينمّ عن رغبة في عدم قطع الجسور. أما في الحقيقة فإنه تصرّف يعاني خفّة لا تُحتمل ولا يرمي سوى إلى التعامي عن المشكلة وتبرير الإقدام على مفاقمتها وزيادة التوتير العام في البلاد. فالوزراء المشار إليهم ليسوا محرومين المشاركة الفعلية فحسب بل أيضاً حق ممارسة الاعتراض كما يشاؤون لأن هناك من يمسك بقرار تعريفهم كمستقيلين أو متغيّبين وذلك وفق تعريفه لمصالحه المتناقضة مع ما يرونه مصلحة لهم ولمن يمثلون. إن مداراة خروج طائفة (أو أكثريتها) من الحكومة وما يعنيه من نقض للتوافق الوطني لا يمكنه أن يكون تهريجياً إلى هذا الحد الذي يقود إلى إنكار الواقعة من أساسها. كما أن الرهان الضمني على أن الوزراء أخذوا إجازة ليوم أو أيام لا تلبث أن تنتهي فيعودوا بعد إسماعهم كلمات طيبة، إن هذا الرهان هو ببساطة، تجاهل استثنائي لعمق الانشطار الوطني ولحيوية القضايا الخلافية ولاشتمالها على عناوين مصيرية تبدأ بالصيغة الداخلية ولا تنتهي بالموقع الإجمالي للبنان في المنطقة وصراعاتها.
الخلط بين التذاكي والحكمة يقود إلى رؤية الإنجاز حيث يجب وعي الطعنة التي تعرّض لها نظام التعايش الوطني. التذاكي شعور يصيب المرء وهو يراقب نفسه. الحكمة تقويم يصدره الآخرون عن سلوك شخص آخر. ونحن، كما يبدو، نعيش في عصر التذاكي أي في عصر النرجسية الفردية والجماعية مع ما يعنيه ذلك من محاولة فرض أجندة فئوية على الآخرين جميعاً بصفتها أجندة وطنية.
يبدو أن حلقات الأزمة سيأخذ بعضها برقاب بعض. أي إنها ستتطور في اتجاه تصعيدي مؤكد. لقد قرّرت قوى 14 آذار تحويل مطلب المشاركة إلى «خطة سورية ــ إيرانية كانت مبيّتة ثم أصبحت مكشوفة للانقلاب على الشرعية». وبما أن المطلب محمول من قوى ذات وزن شعبي مؤكد، وربما راجح، فإن المواجهة لا يمكنها أن تقف عند الحد الذي تريده الأكثرية الحكومية والنيابية وخاصة أنه حدّ شهد وسيشهد المزيد من التدهور في المشاركة.
إن الأزمة أكبر مما يتراءى للبعض. انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ضمن التوازن الحالي في البرلمان، ليس حلاً لها. على العكس. تأليف حكومة متوازنة وذات ثلث ضامن ليس أكثر من حل مؤقت. قد يكون الأكثر إقناعاً الذهاب نحو استفتاء وطني شامل عبر انتخابات نيابية جديدة. لكن، في الأحوال كلها، وبعدما لاقى «الطائف» ما لاقاه في جلسة أمس، بات واجباً السؤال عما إذا كان النظام اللبناني الحالي قادراً على إنتاج حلول لأزماته. السؤال الجدير بأن يُطرح هو: هل أوصلت حكومة نصف لبنان (أو أقل) أمس «اتفاق الطائف» إلى نهايته؟