strong>غسان سعود
يصل النبأ: أطلق مسلحون النار على سيارة وزير الصناعة بيار الجميل. ينقطع الكلام. يتردد أن الوزير أصيب في إحدى عينيه. تزداد زحمة السير. تُعلن أجراس كنائس المتن النبأ. تقرع بقوة. لا يترك صدى رنينها أي مجال للشك. استشهد بيار الجميل. عبارة يخاف أهل المتن من تردادها، لكنها تنعكس عبر الوجوم على وجوههم والدموع في عيونهم.
فقبل أن يمرَّ عام على اغتيال النائب جبران تويني، يعود الرصاص، لا العبوات الناسفة، ليستكمل الكلام الذي يقلق اللبنانيين ويُنفِرُهم من السياسة والسياسيين».
وفي التفاصيل، يتبعثر الكلام في ساحة الجريمة، يتهامس البعض، يكررون الرواية: أنهى الجميل واجب العزاء في كنيسة مار أنطونيوس، قرابة الرابعة إلا ربعاً، جلس بجانب السائق الذي اتجه في سيارة «كيا» فضية اللون ومصفّحة نصفياً، عبر طريق تسلكه السيارات بالاتجاهين بين مدرسة الحكمة ونهر الموت في منطقة الجديدة. وبعد أن قطع قرابة خمسين متراً، اصطدمت به سيارة HONDA CRV سوداء تحمل لوحةً أظهر التحقيق الأولي أنها مزوّرة، حسبما أكد لـ«الأخبار» مصدر أمني رفيع. ونزل منها شابان أطلقا النار من سلاحيهما الرشاشين المزودين بكواتم للصوت، مباشرة في اتجاه الوزير الذي لم يستطع الخروج من السيارة أو حتى فتح بابها. علماً بأنه كان في صندوق سيارة الجميّل بندقيتان حربيتان من نوع M15 وak47، بحسب ما كشف المصدر الأمني لـ«الأخبار». وكلُّ ذلك على بعد أقل من مئة متر من «بيت الكتائب» في الجديدة.
ويبقى المشهد الجامد ليعبر عن نفسه: ترتسم على زجاج السيارة المستهدفة آثار اختراقها بأكثر من ثلاث عشرة رصاصة. ويبدو على فرشها كثير من الدم. وعلى بعد قرابة عشرة أمتار من السيارة التي اصطدمت بها من الخلف، سيارة أخرى، فيما أحاط الجيش بسبع وعشرين رصاصة يُعتقد أنها من عيار 9 ملم استقرت في التراب بعد أن خرقت سيارة الجميل.
وأصيب في الاعتداء أيضاً شخصان آخران، هما المرافق الشخصي للجميل، سمير شرتوني، الذي تأكد استشهاده لاحقاً، وأحد سكان البناية المجاورة لساحة الجريمة. وعلمت «الأخبار» أن الجيش اللبناني قام بمجموعة من التوقيفات، للتحقيق مع أشخاص، معظمهم من جنسيات أجنبية، كانوا بالقرب من موقع الحادث. كما أثارت شاحنة تابعة لشركة «سوكلين» شكوكاً بعد أن تركها أصحابها على مسافة بضعة أمتار من ساحة الجريمة ورحلوا. وأكد بعض الأمنيين تحقيقهم في أمرها. فيما أكد أحد أفراد القوى الأمنية، الذي قال إنه كان أول الواصلين إلى سيارة الجميّل، أن الوزير لم يستشهد مباشرة، وكان يحاول أن يطلب نقله إلى المستشفى، ويذكر أسماء عدة لم يستطع الأمني الذي بدا شديد القلق أن يذكرها.
وذكرت معلومات أمنية أن تحقيقات الأمس شملت عناصر من أمن الدولة المكلفين مرافقة الوزير الجميل وحمايته. فيما أوضح المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي لـ«الأخبار» أن عناصر من قوى الأمن ضُمّت إلى فريق مواكبة الشهيد، التي يتولاها عادة أمن الدولة. ولفت إلى أن موكب الوزير الراحل كان يعتمد على التمويه والتخفّي. وأكد مصدر أمني رفيع آخر أن التحقيقات الأولية لم تتوصل حتى ساعات متقدمة من ليل أمس إلى أي شيء يستحق الإعلان عنه.
من شمال الجديدة إلى جنوبها حيث مستشفى مار يوسف. يتسرب الهدوء بالاتجاهات المختلفة، فتبدو الشوارع فارغة، الا من بعض المواكب السيارة التي رفعت أعلام «القوات» والكتائب وجابت الشوارع. وتعرضت مكاتب «التيار الوطني الحر» لاعتداءات، كما أحرقت صور للعماد ميشال عون. كلُّ ذلك قبل أن يجتمع الكتائبيون والقواتيون في ساحتي ساسين والدكوانة، ليتوجهوا إلى مستشفى مار يوسف، ومنها إلى مقر الكتائب في الصيفي، حيث عمد بعض الشبان الغاضبين إلى إحراق عدد كبير من الأخشاب لقطع الطريق، أسوة بما فعله رفاق لهم بالقرب من نفق نهر الكلب.
وعلى طول الطريق بين ساحة الجريمة والدورة، بدا الكتائبيون وأصدقاؤهم مستنفرين وغاضبين. احتشدوا بالمئات أمام مستشفى مار يوسف، مرددين هتافات ضد «حزب الله»، الذي اتهمه مناصرو الكتائب مباشرة بارتكاب الجريمة. وكانوا يصرخون بضرورة إلغاء «الحزب» من الوجود. أما النائب العماد ميشال عون فكانت له حصته أيضاً من الشتائم. فيما عمد بعض الكتائبيين إلى التدقيق في البطاقات الصحافية لطرد إعلاميين قالوا إنهم يخالفونهم الرأي السياسي. ويستكمل مشهد الغضب بالهتاف باسم «قائد القوات اللبنانية» سمير جعجع، الذي كان «تنبّأ» بالعملية قبل بضعة أيام، وطلبت منه الهتافات أن يأخذ بثأر الكتائب والقوات. كما رددت شعارات أبرزها: «وحدها بتحمي الشرقية القوات اللبنانية» و«نحن نحن المسيحيي.. كلنا قوات لبنانية». ووسط السخط والتدافع وتوافد المعزين السياسيين، وزعت صور الوزير الشهيد الذي يحمل الرقم 1305621300 في حزب الكتائب.
وعلت في بعض المناطق المتنية، وفي ساحة ساسين، مقتطفات من خطابات الشهيد. ورغم دعوة الرئيس أمين الجميل إلى ضبط النفس، قام عشرات الكتائبيين والقواتيين بإنزال صورة ضخمة للعماد عون في ساحة ساسين. واحرقوها، كما أحرقوا صورة مماثلة قرب جامعة الحكمة في الأشرفية.
أما بكفيا، عاصمة الكتائبيين، فعزلت عن سائر المناطق تقريباً، بعد أن أقفلت قوى الأمن المداخل المؤدية إليها، ليؤسر أهلها مع أحزانهم من دون القدرة على الخروج منها إلا بمجموعات صغيرة، وذلك وفقاً لمصدر أمني، لمنع حصول تجمّعات ضخمة قد تؤدي إلى استفزازات. وعلمت «الأخبار» أن إشكالاً وقع بين أنصار حزبي الكتائب والقومي السوري، لكن سرعان ما طوّقته القوى الأمنية. وذلك بعد أن تجمّع قرابة 200 محازب أمام مقر حزب الكتائب، وحطموا ثلاث سيارات تعود إلى عناصر من الحزب القومي، وقطعوا بها الطريق العام. وسُجّل حرق إطارات في جبيل على المسلك الشرقي من الأوتوستراد، ما أدى الى انقطاع السير كلياً في اتجاه طرابلس. وقامت، وحدات من الجيش وقوى الأمن الداخلي بتفريق المتظاهرين. وعملت عناصر الدفاع المدني على إخماد الحرائق. كما أقفلت مساءً قرابة ساعتين الطرق المؤدية الى القصر الجمهوري في بعبدا، ومنع الدخول إلى المنطقة أو الخروج منها.