ابراهيم الأمين
«لا تنسَ الدعوة الى الاعتصام».. لم يقدر فارس سعيد على تمالك نفسه عندما اقترب من الرئيس أمين الجميل مطالباً إياه بالإعلان عن هذه الخطوة في ختام كلمته. لم يرد الاخير. رفع سقف خطابه لكنه لم يشر إلى الخطوات العملية. ضرب فارس سعيد جبينه بكفه. لقد انكشف في اللحظة الأصعب. الرجل يريد أن يدفن ابنه ومعه أحقاد وثارات أتت على أفراد كثر من عائلته. بينما يهتم سعيد ومن يمثل، بلحظة الاضطراب العقلي والسياسي والعصبي. بإشعال النار: هذه هي فرصتنا ولا يجوز أن نفوّتها كما فعلنا بعد 14 آذار!
لم يكن فريق السلطة موفقاً أمس. لا الحشد يشبه يوم الحشد، ولا الخطاب له صلة بتعبئة بحجم ما حصل. وأكثر من ذلك. ثمة خلل مركزي في آلية التعبئة متصل بالموقف أكثر مما هو مرتبط بالآليات. إضراب جزئي في المدن المفترض أنها مركز ثقل هذا الفريق، ومشاركة شعبية مسيحية تقتصر على فريق “القوات اللبنانية” وبعض الكتائبيين، وتجنيد أقل بكثير مما رصد لجذب الشارع السني. وهذا لا يعني ان فريق السلطة تنقصه عصبية او جمهور او ادوات للقتال. لكن من المفيد القول إنه يصعب إدارة معركة سياسية شاملة بحسابات لا تتصل بما كانت عليه الأمور قبل أقل من عام.
إضعاف العماد ميشال عون وتحييد الرئيس نبيه بري. هذا هو العنوان المشترك لعمل فريق السلطة الذي يقوده فعليا الآن كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع. أما سعد الحريري فقد تاه وسط متطلبات أبرز مجرمي الحرب الاهلية. وهو وإن كان مقتنعاً بأن موقفه صحيح الآن، وأن الآخرين، وتحديداً حزب الله والتيار الوطني الحر، ليسوا في صفه، فهو يربط الأمر بالموقف من التحقيق في جريمة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري. لم ينتبه سعد الى أنه يصعب اتهام الآخرين بمحاباة قاتل مفترض هو سوريا، وهو يخوض تحالفاً مع قاتل مدان من أعلى سلطة قضائية في جريمة اغتيال رئيس وزراء سابق.. أليس بين من يشرع للمحكمة الدولية الآن من كان عضواً في المجلس العدلي الذي حكم بإدانة جعجع؟ وهو في الوقت نفسه شريك أشد رموز الحرب قسوة في قتاله الآخرين بواسطة آخرين... ألا يرى سعد الحريري أنه يصعب إقناع الناس بأن عليهم السير خلف جنبلاط وجعجع بدل نصر الله وعون؟
انتهى التشييع، لكن الدم لا يزال حاراً، لكن فريق السلطة مستعجل أكثر مما ظهر على المجرمين من استعجال في تنفيذ جريمتهم والمخاطرة بعناصر كثيرة. ولا مكان للعقل البارد، ومع ذلك فإن باب الأسئلة مشرع بخلاف ما يرغب أصحاب كواتم الصوت من كتم للأنفاس ومنع أي سؤال او كلام عمن هو المستفيد من موجة القتل والتوتر الاخيرة؟
كان حزب الكتائب يدخل مرحلة جديدة بعد قداس حريصا الشهير. ومحاضر اجتماعات قيادة هذا الحزب تكشف عن الخيبة الكتائبية من “التمادي القواتي في سرقة الشهداء والأمجاد”. تطور الأمر الى حدود أن بيار الجميل نفسه طلب استنفاراً على مستوى حضور الحزب في كل الأمكنة، طلب إعادة تنشيط الأقاليم ومضى في خطة كانت تمهد ببساطة لتولّيه منصب الرجل القوي في الحزب، الذي يمكن أن يمسك القرار بين رئيسين أدنى وأعلى. ثم كان النقاش في امكان تحييد الكتائب نفسها عن الصراع القائم “بين السنة والشيعة بواسطة المسيحيين”. كان الجدل قد وصل حدود الإقرار بأن المشاركة المسيحية ضئيلة في سلطة 14 آذار، وكان القرار أقرب الى تعايش من نوع مختلف مع الحالة العونية، مع تقدير ربما يكون أقرب الى وهم بأن الكتائب إن جددت يمكن أن تكون وريثة التيار الوطني، على قاعدة أن القاسم المشترك بين الكتائب و“القوات” انحصر في اعتبار حالة عون طارئة وتتجه صوب الضمور.
مضى سمير جعجع في ترتيب أوضاعه. ومن النواحي كلها. تنظيمياً عمل من دون توقف على استعادة كل الكوادر. وعلى صعيد ترتيب الوضع الأمني للحزب وقياداته كان غسان توما يعود الى الواجهة. شرع له جعجع شخصياً الباب بإعلانه قيادياً في “القوات” ثم نشط الأخير في استعادة عشرات من الكوادر الذين سافروا على مراحل بعد توقف الحرب الاهلية وبعد توقيف سمير جعجع. ثم بدأت عمليات التدريب تحت حجة الأمن الخاص بالشخصيات والمراكز. وثمة وثائق وصور عن تدريبات لعناصر كثيرة من القوات في أكثر من منطقة لبنانية. وكان هناك في الوقت نفسه عملية استعادة المؤسسات المباشرة. وسيلة الإعلام المركزية أي المؤسسة اللبنانية للإرسال وإذاعة لبنان الحر. وفتح الباب أمام جمع المداخيل المالية من اكثر من جهة. والعمل على الارض على جبهتين: الاولى سرقة ما أمكن من الكتائبيين الذين يريدون عصبية أكثر حدة من التي قامت، وتهويل على التيار الوطني الحر من باب ترهيب تشهد له القرى والأزقة والجامعات.
فجأة يعود السجال الداخلي الى ذروته. قوى المعارضة اجتمعت في طابور واحد بعد خروج أمل وحزب الله من الحكومة. واستنفار وتعبئة شعبية ظهرت مؤداها العملي في الاحتفال العوني في 15 تشرين الأول، لكن الخطة الاكثر عملانية كانت في الاستعداد لبرنامج تحرك مفتوح حتى استقالة الحكومة. ولم يكن هناك أمل لأي شيء آخر. رفع عنوان المحكمة الدولية، وفجأة تظهر الحاجة الى فعل ما يقلب الامور رأساً على عقب. مع كلام أميركي ضاغط تحت عنوان “تجديد ثورة الأرز” وسرعان ما يتم اختيار هدف لافت: بيار الجميل. ثم جاءت النتائج:
1ــــــ دفع المعارضة الى التراجع عن الخطط وإدخالها في ارتباك مفتوح على امور كثيرة.
2ــــــ اغتيال فاضح يدل على استعجال من قرره بطريقة تنفيذه في منطقة وضد شخصية تفتح باب السجال الأعنف ضد التيار الوطني الحر.
3ــــــ استنفار العصبية التي قامت عليها المجموعات التابعة لتيار “المستقبل” والحزب التقدمي الاشتراكي ضد سوريا باعتبارها القاتل الدائم، وتحريك الشارع لأجل شعارات تتجاوز مطالب المعارضة الخاصة بالمشاركة.
4ــــــ اختيار شخصية من حزب يصبح مضطراً لحسم خياره السياسي دون أي تردد كالذي عاشه سابقاً، ودفعه طوعاً او غصباً الى حضن المشروع الطائفي والمذهبي المتوتر الذي يقوده سمير جعجع.
5ــــــ التسريع في إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن ودفع الإحراج للقوى السياسية الداخلية ولا سيما الرئيس نبيه بري الى الحد الاقصى، بغية تشريع جلسة جديدة لمجلس الوزراء للمصادقة على ما اقره مجلس الأمن وتحويل الملف الى المجلس النيابي.
ثمة أسئلة كثيرة وثمة معطيات كثيرة وثمة ما هو متصل بالتحقيقات نفسها التي تكشف عن ثغر كبيرة، وما يفتح الباب على ما هو اكثر تعقيداً في بلد يتجه صوب الصدام ما لم تتدخل جهات قادرة على جمع الكل في غرفة مقفلة حتى إشعار آخر!