جاد نصر الله

(أرشيف- وائل اللادقي)

  • ثلاثة أشهر مرّت على انتهاء العدوان
    الاسرائيلي على لبنان، وورشة النهوض بالمناطق المنكوبة لم تبدأ بعد. ضاحية بيروت الجنوبية دُمِّرَت. بعض أحيائها اختفى بالكامل، والقليل المتبقي من المباني ليس سوى هياكل إسمنتية تنتصب عارية على جانبي الشارع في انتظار مصيرها: الترميم أو الهدم

  • التنظيم المديني... الشركة العقارية... والنسيج الاجتماعي

    حتى الساعة، لم يتم عرض أي خطة واضحة لإعادة تنظيم الضاحية مدينياً. وإن جرى التداول في العديد من الأفكار التي تناولت آليات ورشة الإعمار، فإنَّ جهة ما لم تتقدّم حتى الآن بطرح سياسة عمرانية تعيد تحديد معالم المكان وتدمجه بالنسيج الاجتماعي القائم من حوله، عَلَّ الحياة تُبعَثُ هناك من جديد.
    انحصر النقاش بين الجهات المعنية في آليات التطبيق. سعت الحكومة اللبنانية الى اعتماد الشركة العقارية حلّاً، ومدخلاً لتكرار تجربة الوسط التجاري للعاصمة بيروت في عام 1992. «حزب الله» رفض الفكرة من جهته. ولم يمنعه انهماكه بمتابعة قضايا الأهالي المتضررين ودفع التعويضات، من العمل على التحضير لتصوّر كامل لإعادة الإعمار، والاستعداد لوضعه حيّز التنفيذ. أمّا ما أشيع عن نيّة الحزب تحويل منطقة الضاحية الجنوبية الى شركة عقارية، فقد نفاه معاون رئيس المجلس التنفيذي الدكتور بلال نعيم بالتأكيد أنَّ «الموضوع انتهى ولا خشية منه». وأضاف «أنه حتى لو اعتُمدت شركة واحدة كبيرة تتولى الأعمال فسيتّسم طابعها بالاستثماري والتجاري. ونحن لسنا ضد مبدأ استدراج العروض من الشركات الأجنبية ولكننّا سوف نسعى الى تلزيم الأعمال التنفيذية الى الشركات المحلية كي نحمي السوق اللبناني». الخوف من تحويل ملكية العقارات المفروزة الى حساب شركة كبيرة تحتكر حق التصرف بالمساحات والأراضي نابعٌ من التجربة المريرة التي عاشها مواطنو بيروت وأصحاب العقارات والمحال في الأسواق التجارية في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي بعد إقرار «المخطط التوجيهي لإعادة إعمار بيروت ووسطها التجاري».
    تعتبر الباحثة ومنسقة قسم التخطيط المديني في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة منى حرب، أنَّ «آلية إعادة التنظيم منطقية، ومثيرة للاهتمام إذا ما نُظر إليها من زاوية تقنية. إنَّ تطبيق قانون الشركة العقارية ربما يُشكِّل الحل لمشاكل كثيرة عالقة من ناحية استملاك الشقق والوحدات السكنية العائدة لأكثر من شخص واحد، على أن تكون لمدّة محدّدة من الزمن ثم تُترجم الى مُلكية عقارية في فترة لاحقة». وترى حرب أن النص القانوني جيد من حيث المبدأ باستثناء التعديل الذي طَبَّقته شركة سوليدير وقسَّمت الملكيات على أساسه الى فئات (أ) و(ب) و(ث) تتفاوت في أهميتها وسعر بيع أسهمها. «هذا من الناحية النظرية، أمّا إذا عكسنا المسألة على الواقع السياسي الحالي، والمنافسة التجارية ومكتسبات الشركات المتعهدة، فإنّ استملاك العقارات لشركة واحدة كبيرة يصبح كارثياً». وبحسب حرب، صدقية «حزب الله» هي العامل الأساسي في المعادلة، إذ يعوّل عليها في حال أشرَفَ الحزب بنفسه على إدارة الشركة المالكة.
    يقضي نعيم معظم وقته بين أنقاض الضاحية. ألَمَّ بمعطيات الملف حتى أمسك بتفاصيله. ما زال يستقبل مراجعات المواطنين ويستمع الى شكواهم في الخيمة التي نُصبت في فضاء حارة حريك بعد وقف إطلاق النار. هو يُحدد دور الحزب في خطة إعادة البناء كـ«وسيط بين الشركات العقارية والسكان المتضررين». ويؤكد انهم سيتركون الخيار للناس بين أن يعيدوا إعمار منازلهم بأنفسهم، وأن يشتروا الشقة بعد انتهاء الأشغال التنفيذية. وتقوم حالياً اللجان بإحصاء عدد المواطنين الراغبين في ترك منازلهم في المنطقة.
    أعلن نعيم انتهاء مرحلة «الإيواء» التي دفعت حتى الآن بدل أضرار الى أربعة عشر ألف عائلة في مختلف الأراضي اللبنانية، منها خمسة آلاف في الضاحية الجنوبية وحدها. أمّا عن الشق الثاني والأهم المرتبط بترتيب الموقع وتقسيم وظائفه، فالأمر ليس سهلاً كما يتصوّر البعض بحسب ما يُعبِّر نعيم، «إنَّ تغيُّراً نوعياً لن يطال النسيج الموجود للشوارع والأحياء على الأرجح. سَتُدخل بعض التعديلات على مستوى الواجهات الخارجية فقط، والأهم من كل ذلك أننّا نسعى جاهدين إلى ألا نترك أي مبنى من دون ملجأ وموقف للسيارات حتى لو اضطررنا إلى أن نستحدث طبقات علوية لهذه الأخيرة». أمّا الكلام على مُخطط هندسي جديد فيسقطه نعيم من سلّة المقترحات الجديّة.
    للدكتورة حرب علاقة قديمة مع الحيّز الجنوبي لمدينة بيروت الذي باتَ يُعرَّف بـ«الضاحية» منذ أوائل الثمانينيات. وهي أجرت تحقيقاً مطوّلاً عن التطور العمراني فيه، عام 2003، آخذةً بالأسباب التاريخية والجغرافية والتحولات الاجتماعية والثقافية لفضائه المديني. تساؤلات كثيرة عن المدينة ومجالها الحيوي تشغل بالها: «أين سيوظف رأسمال «حزب الله»، وأي نوع من المدن سوف نشهد؟ ما هو الشكل الذي سيتخذه النسيج المُنتج؟». تتخوّف حرب كثيراً من فكرة تبدُّل المعالم العمرانية لمنطقة تحوّل طابعها مع الوقت أكثر من مَرَّة حتى صار الى ما هو عليه اليوم: حزام بؤس يلف العاصمة، غريب عنها ولا ينخرط فيها. بقعة عمرانية مكتظّة سكانياً، تجاور قلب بيروت وتسعى إلى التفلت منه.
    خَبِرَت حرب، بحكم تخصّصها الأكاديمي ومتابعتها الميدانية، تجارب عدة لمدن اندثرت بفعل الحروب، ثم عادت ونهضت من جديد. وهي تتوقع بالنظر الى التسرّع في الإنجاز والمنطق العمراني الذي يتَّبعه أصحاب القرار الفعلي، أن النتيجة النهائية ستصبح امتداداً للحيّز العمراني المنتشر غرب مخيم صبرا وشاتيلا والمتصل بحدود منطقة الأونيسكو شمالاً: عمارة غريبة تمزج في شكل صارخ بين لزوم التعبير عن الانتماء الطبقي وغياب الوعي بأهمية ابتداع عناصر عمرانية تحاكي الإشكاليات الحياتية للناس وتساهم في تحسين شروط واقعهم الإنساني.
    «الضاحية». من سينتشلها من تحت الركام؟ من سيلتقط فرصة خرابها فَيُشيِّد مدينة مستعدة لاحتضان أبنائها مرة ثانية؟ كلام كثير قيل حتى الساعة. زعماء البلد ورجالات أعمالها وسماسرتها يتطلعون الى القضية بعيون مصالحهم. مُنَظِّرو العمارة وعلماء الاجتماع فتحوا باب النقاش على مصراعيه ولم تنهكهم المجادلة، لكن صدى صراخهم لا يُصيب من دائرة القرار إلّا تماسها.



    الشركة العقارية

    يحدد المرسوم 959 الصادر بتاريخ 29-1-1965، قانون تنظيم الشركات العقارية التي يتخذ مجلس الوزراء القرار بالترخيص لها. وتؤسس الشركات العقارية عادةً بين الدولة والبلديات وأصحاب العقارات وأصحاب الحقوق العينية على هذه العقارات. «إن مجرد صدور مرسوم الترخيص بتأسيس الشركة يؤدي حتماً وبدون أية معاملة أخرى الى إسقاط الأملاك العامة الواقعة ضمن المنطقة وإدخالها في الأملاك الخاصة».
    تقوم الشركات العقارية بجميع العمليات التي يقتضيها تنفيذ تصميم ونظام تنظيم مدني موضوع لمنطقة ما، ولا سيما بعمليات إخلاء جميع الأبنية المشغولة تباعاً وحسب مقتضيات تنفيذ وتصميم التنظيم المدني على أن تتّبع من أجل تحقيق هذا الغرض القواعد والأصول العائدة إلى أحكام الاستملاك المستعجل. إضافة الى ضم وفرز العقارات الواقعة ضمن أملاك الشركة.
    أمّا بالنسبة الى الأسهم فهي «اسمية وتبقى دوماً كذلك، ولا يجوز التفرغ عنها بين الأحياء الا بموافقة مجلس الإدارة وبعد استيفاء كل الشروط التي يكون قد وضعها بهذا الصدد».




    الدولة و«حزب الله»

    يقول الدكتور بلال نعيم إنّ هناك 25 مبنى بحاجة الى الهدم، إضافة إلى 50 آخرين اتخذ القرار بإزالتها في وقت سابق. وقد التزمت شركة «خطيب وعلمي» بإجراء الدراسات اللازمة على 97 بناية لتحديد حالة كل منها. ومن إحدى المهمات الحالية للّجان التي ألّفها «حزب الله» تدعيم الأساسات لمئتيْ هيكل خرساني ما زال في الإمكان الإفادة منها. أمّا بالنسبة لترميم الأقسام المشتركة لحوالى سبعمئة مبنى، فالأشغال سوف تنتهي في مطلع الشهر القادم.
    أمّا عن التنسيق القائم بين «حزب الله» والحكومة اللبنانية فيعدِّد نعيم جوانبه كالآتي:
    1ـ التعويض عن الخسائر الاقتصادية، وقد حدَّدت الدولة 200 دولار للمتر المربع لأصحاب المحال التجارية والمستودعات.
    2ـ استملاك البلديات المحلية لبعض العقارات الخالية لإنشاء حدائق عامّة.
    3- تنفيذ مشاريع المخططات والشوارع المقرّرة سابقاً من مجلس الإنماء والإعمار.
    4- بناء أربعة مجمّعات مدرسيّة تساهم في حل مشكلة استئجار مباني المدارس الرسمية التي تعاني منها وزارة التربية.




    مسابقة دولية

    يسعى عدد من أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت إلى إطلاق مباراة عالمية موضوعها الأساس إعادة إعمار الأحياء المدمرّة في الضاحية الجنوبية. انطلقت الفكرة من تجارب سابقة في التاريخ اعتمدت النقاش المفتوح واستندت إلى دراسات علمية منهجية لإحياء مدن تأذّت بفعل الحروب، فكانت النتيجة أنّ أحجامها عادت لترتفع بشكل أفضل من السابق. يستنفر أصحاب المبادرة طاقاتهم ووقتهم من أجل الفكرة. يحملون همّاً شخصياً للحيلولة قدر الإمكان دون تدمير عمراني آخر، على أيدي البنّائين هذه المرّة.
    ستُسجّل المباراة لدى «جمعية المعماريين العالمية» (UIA)، ممّا سيُكسبها الصدقية اللازمة ويضفي عليها شرعية عالمية. وستطلق الى العلن في الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني كموعد أوّلي، ويشرف عليها أساتذة الجامعة باعتبارهم الجهة المنظمة.
    تقبّلت بلدية حارة حريك الفكرة بإيجابية كبيرة، ويتعاون أعضاؤها على تسهيل طلبات أصحابها قدر الامكان، إضافة الى متابعة نقابة المهندسين عبر حضور دائم لمندوبها في اللجنة. وتشكل البلدية مع مجلس النقابة «اللجنة المحركة» التي سيعود اليها البت بالقرارات.
    ستة أسابيع، هي المهلة التي أعطاها الباحثون لأنفسهم ليُجروا فيها أبحاثاً ميدانية مُعمّقة في مجال العمارة والتاريخ وعلم الاجتماع ودراسة البنية التحتية وهيكلية المواصلات. وعند الانتهاء، سيوضع الملخّص عن المنطقة موضوع المنافسة بين أيدي المشاركين في المباراة، وسَيُمهل هؤلاء فترة شهرين قبل تسليم مخططاتهم المقترحة.
    كلفة السير بالمشروع ليست بقليلة، وخصوصاً أن إنشاء موقع إلكتروني وتوزيع قرص مدمج سيكونان من الأولويات. الجامعة الأميركية لم تلتزم مبلغاً مادياً، بل تطوعت من خلال جهود أكاديمييها. وإمكانات البلدية محدودة. وحدها نقابة المهندسين ستدعم مالياً بقدر ما هو متاح لها.
    لا ينتظر المنظمون تحقيق توقعات عالية، فـ«للفكرة دلالات رمزية. اذا حققنّا عشرة في المئة فقط ممّا نصبو اليه، فهذا إنجاز بحد ذاته». يحملون همّاً بفتح نقاش وخلق أفكار من خلال رؤية شاملة وتثبيت استراتيجيات لإعادة الإعمار والسعي قدر الإمكان إلى تصحيح مسار التنظيم المديني.