جان عزيز
قبل استشهاد بيار الجميل، يؤكد سياسي متابع، و«متّصل» أن البحث بين طرفي السلطة والمعارضة، وخصوصاً لدى الدوائر الوسيطة المولجة آخر قنوات الاتصال بين الفريقين، كان يدور حول القراءة الآتية:
يعترف الجميع بأن الموازين أصبحت متعادلة، لا داخلياً وحسب، بل إقليمياً ودولياً ايضاً. وبالتالي فإن اي إنجاز لأي فريق على حساب الآخر بات مستحيلاً. ولذلك فإن المخرج الوحيد المتروك هو صيغة حل شامل، على طريقة السلة الكاملة او الرزمة الواحدة، بما يرضي مطالب الطرفين وتطلعات الفريقين، وبما يسقط بالتالي شروطهما المتقابلة وحقي نقضهما المتبادل. ويجزم السياسي نفسه أن الصورة الاولية لمثل هذه الرزمة كانت قد اصبحت واضحة لدى مرجع نيابي معني بالاخراج والتنفيذ. ومفادها ايجاد تسوية تتضمن اربعة عناصر متلازمة: التغيير الرئاسي وإمرار المحكمة الدولية، تلبية لأجندة فريق السلطة، والتغيير الحكومي والانتخابات النيابية، تحقيقاً لأجندة المعارضة.
ويشير الى أن الجدول الزمني لترتيب استحقاقات المسائل الاربع، هو أبرز ما ظل ناقصاً في «بازل» الحل المتكامل، كما كانت قد بدأت تتبلور صورته لدى المرجع النيابي نفسه، علماً بأن التلازم في ما بينها يجعلها مترابطة في شكل يضمن التزامن، كما يسهل توالي التنفيذ والتطبيق في آن معاً. ذلك أن الاتفاق على التغيير الرئاسي مثلاً، يؤدي حكماً الى تغيير حكومي. كذلك فإن حصول الاخير يؤمّن الضمانات المطلوبة في قضية المحكمة الدولية، إقراراًَ ونظاماً وآلية عمل ومتابعة في شكل كامل.
غير أن التلازم الشكلي بين الاستحقاقات الاربعة لم يكن كافياً لجعل الاتفاق المطلوب تلقائياً. وظل المرجع نفسه بحسب المصدر ، يؤمن بأنه لا بد من حاضنة اقليمية ودولية، لضمان الاخراج والترتيب الزمني والجدولة التنفيذية في آن معاً.
وكان التفكير في تكوين هذه الحاضنة قد اتجه صوب طرفين اثنين: الرياض ودمشق. على أساس أن طهران لا يمكن ان تكون معرقلة، أو أنها كانت قد أعطت كلمتها للمرجع المقصود. والبحث في العمل على الخط السعودي كان قد استقر على ضرورة الاستعانة بالأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وذلك بصفاته الثلاث: عربياً، ومصرياً، وشخصياً. خصوصاً أن موسى كان قد أبدى في زيارته ما قبل الأخيرة الى بيروت منتصف تشرين الاول الماضي، استعداده للتحرك على خط الاتصالات الآيلة الى تقريب وجهات النظر. خصوصاً أن موسى كان قد التقى في حينه وليد جنبلاط، وتباحث معه في المسائل الجنبلاطية العصيّة، من سلاح «حزب الله» الى الموقف من دمشق.
هكذا يؤكد المصدر أن «التفكير» كان قد توصل الى التمني على عمرو موسى جس نبض الموقف السعودي الفعلي، لجهة علاقته الراهنة بالمحور السوري ــ الايراني واستشرافاتها، كما لجهة انعكاس هذه العلاقة على الواقع اللبناني. كذلك التمني على أمين عام الجامعة السعي مع الرياض الى اخراج تسوية النقاط الأربع في اطار برمجة زمنية مقبولة.
أما التفكير على الخط السوري، فكان مرجحاً تركه للمرجع النيابي نفسه. بحيث تعقب زيارة موسى لبيروت، زيارة منتظرة لهذا المرجع الى دمشق، للبحث في مسألة محددة: هل ترى القيادة السورية أن علاقتها بالولايات المتحدة الاميركية تراوح راهنا في مرحلة انتظار وترقب وتقطيع وقت، غير قابل لضبط مآله وتوقع نهاياته؟ أم هذه العلاقة باتت في مرحلة أكثر تقدماً لجهة ما يحكى عن تغيير في سياسات واشنطن الشرق أوسطية؟ فاذا كان الاحتمال الثاني هو الصحيح، يقفل الملف اللبناني المقترح على قاعدة أن الكثير قد مضى ولم يبق الا القليل. اما اذا كان الاحتمال الأول هو الصحيح، فالأفضل عندها التقاطع مع الوضع السعودي لبنانياً، لإنجاح «سلة النقاط الأربع».
يؤكد المصدر المطلع أن البحث والتفكير كانا قد بلغا نظرياً هذه النقطة، عندما انطلقت تلك الرصاصات الغادرة في جديدة المتن، بعد ظهر 21 الجاري، وقبل أقل من 48 ساعة من وصول عمرو موسى الى بيروت.
كانت المسألة قد بلغت نقطة محددة: ماذا بين دمشق وواشنطن، لنعرف ماذا نفعل، عندما سقط بيار الجميل فتجمد كل الفعل، لا بل انعكس بعضه وانقلب البعض الآخر، وتحولت المنطقة المسيحية ساحة لحرب إلغاء ميليشياوية من طرف السلطة.
ولأن كلمة السر اذن هي بين السوريين والأميركيين، يتوجه المصدر المطلع غرباً في محاولة لقراءة الفهم الاميركي لاغتيال الجميّل، وليجد فيه ترجمتين مختلفتين، لا بل متناقضتين، ظهّرتهما وسائل الاعلام الأميركية، كما الغربية عموماً، في تعاطيها مع الجريمة. ترجمة أولى مفادها رفع الصوت الاميركي في مواجهة «التغيير» المحكي عنه في واشنطن، على طريقة: تريدون الحوار مع دمشق؟ تفضلوا، هذه أولى نتائجه، اغتيال سوري لوزير معارض. فكيف حين تتفقون مع سوريا نهائياً، فمن يبقى حياً عندها، تماماً كما حصل عند اتفاقيكما السابقين معها، عامي 76 و 90؟
أما الترجمة الثانية فمعاكسة تماماً ومفادها التساؤل: من دخل على خط الحوار الأميركي ــ السوري الناشئ، فاغتال الجميل لنسفه وإجهاضه؟
بعد 21 الجاري، توقف «التفكير»، في انتظار الحسم الاميركي، حول اي من الترجمتين ستسود في واشنطن، حيال جريمة ذلك النهار. ووفق الترجمة السائدة، يمكن قراءة التطور اللبناني المقبل، بين دفن «سلّة الحل» مع الشهيد الجميّل، او إحيائها بثمن دمه، ليكون فعلاً فداءً للحل..