جان عزيز
يوم السبت الفائت، وبعدما أنهى ميشال عون كلامه في الأنطونية ــ بعبدا، خلال المؤتمر المخصص لموضوع مهجّري منطقة الجبل، مال أحد الضيوف المدعوين من السياسيين، إلى كتف ضيف آخر وهمس في أذنه: «هل قصد الجنرال أن يكون خطابه مسيحياً بامتياز؟»، فأجابه جاره: «بل قصد استخدام الخطاب الوحيد الناجع مع وليد جنبلاط».
أوساط سياسية قريبة من «التيار الوطني الحر» أوضحت أن مضمون كلام عون كان في الواقع مندرجاً تحت سقفين اثنين: المقاربة القانونية المبدئية، والمقاربة السياسية الواقعية. وكل ما تقدم به من وقائع حول الحقائق والاعتذارات والتعويضات، يصب في هذين الإطارين تحديداً.
وتفصّل الأوساط نفسها لناحية المستوى القانوني المبدئي، فتذكر أن عون كان منذ عام 1991 معارضاً لقوانين العفو، حتى ذاك الذي شمله هو شخصياً واعتُبر مستفيداً من مفاعيله. ذلك أن عون يدرك «قوانين الحرب»، ويعرف أصول «الحق الإنساني» الملزم لكيفية خوض المعارك العسكرية. لذلك فهو لا يمكنه التغاضي عن انتهاك هذه القوانين، ولا عن الخروق المتمادية لذلك الحق. ورغم كون نظرية «العفو العام» الذي يلي الحروب والاضطرابات، قد تبنّتها جزئياً إحدى معاهدات جنيف، إلا أن عون يعرف ويردد أن الفقه الحقوقي الإنساني المعاصر، بات يتجه الى الاستعاضة عنها بالمفاهيم الحديثة حول «آليات العدالة الانتقالية».
تضيف هذه الأوساط أن نتاج أعمال الأطر الدولية المتخصصة في هذا المجال، انتهت الى الوعي العميق بأن الخروج من الحروب الأهلية أو الداخلية لا يكون بطمس الحقائق، ولا بمحو الذاكرات الفردية والجماعية، ولا بتجهيل المرتكبين ولا بكمّ أصوات الضحايا وذويهم، بل بالانطلاق من الحقيقة الكاملة، وصولاً الى المصالحة الكاملة. وتشرح الأوساط نفسها أن الجهات الدولية المعنية بهذه الأنشطة تقيم إجراءات واضحة وثابتة لهذا الانتقال، وأخرى متبدّلة بحسب الدول والمجتمعات المعنية. ففي بعض الدول الأفريقية اعتبرت مساءلة المرتكبين ضرورية، فيما أسقطت في أمكنة أخرى. كذلك الأمر بالنسبة الى إزاحة المسؤولين، وعدم تركهم في مواقعهم أثناء الانتقال أو بعده. لكن إجراءين اثنين يظلان ثابتين في كل الأحوال، وهما الاعتذار من الضحايا، والتعويض عليهم، أو ما تسميه الهيئات الدولية «جبر الأضرار». فمن دونهما لا يمكن القول بحصول أي مصالحة فعلية، بمفهوم الأعراف القانونية الدولية والتجارب التاريخية والمعاصرة. لذلك يعتبر عون أن لا مصالحات حصلت في لبنان بعد.
أما لجهة المستوى السياسي الواقعي والآني، فتكشف هذه الجهات عن سلسلة من «الفضائح» التي رافقت تعاطي السلطة مع الموضوع، ومع مؤتمر المهجرين نفسه. ومنها أن موعداً كان مطلوباً من الوزير المختص منذ 29 حزيران الماضي، للبحث في أوضاع البلدات الأربع: كفرمتى، عبيه، بريح وكفرسلوان. ليظل الطلب منسياً، حتى 48 ساعة قبل مؤتمر عون، حين تحركت دنيا الوزارة والحكومة وأوصيائهما فجأة وبسحر ساحر. ففي خلال يومين حدد الموعد المطلوب قبل شهرين، والتقى الوزير المعني أصحاب العلاقة، ليفاجئهم بكونه غير مطلع على الملف، متمنياً عليهم الصعود الى المختارة «لشرب فنجان قهوة» وحل القضية. وفي اليومين نفسيهما رتب موعد في بكركي وأعلن عن لجان غبّ الطلب، واستكتب أحد النواب المعنيين، وأعلن عن مصالحة الأحد، وقبض تعويضات الاثنين، الأمر الذي لم يحصل أمس، بل استعيض عنه بموعد جديد يوم الخميس المقبل، بعدما تبين أن وعود صرف الأموال، كما أعطيت، تشكل خرقاً قانونياً ودستورياً وجزائياً موصوفاً.
ونقلت الأوساط نفسها عن بعض الأهالي تأكيدهم أن اليومين المذكورين حفلا بسلسلة اتصالات من أرقام خلوية مغفلة، للتهويل على بعض الأهالي المعنيين، والضغط وحتى التهديد، فيما لو لم يحضروا الأحد الى المختارة. وسأل هؤلاء لماذا هذه المصالحة هي الأولى التي تتم في المختارة، لا في الوزارة المختصة؟ ولماذا الأولى التي لم تترافق مع أي وثيقة موقعة، ولا أي تعهّد، ولا أي ورقة؟ ولماذا هي الأولى التي جُرّ فيها الأهالي الى دارة المسؤول عن تهجيرهم، من دون أن يتمكنوا من زيارة قريتهم، حتى في يوم المصالحة المزعومة نفسه؟
وسط هذه الحقائق الدامغة، تسأل الأوساط القريبة من «التيار»: هل أعاد ميشال عون فعلاً فتح صفحة الحرب في كلامه يوم السبت؟ لتجيب جازمة: بل قصد طيّها نهائياً. لكن الصفحة لا تطوى إذا لم تُقرأ، وهي لا تُقرأ إذا لم تُكتب. وهذا ما أراد عون إنجازه. فيما جنبلاط هو من وقف في 13 حزيران 2005، بعد 45 يوماً على جلاء الجيش السوري، وبعد اجتماع ضمّ نوابه كلهم، وبينهم نائبان قواتيان، ليوجّه تحياته وشكره الى «جنود جيش التحرير الشعبي، الذين صنعوا السلم في سوق الغرب عام 1989»، في إشارة منه الى معركة 13 آب من ذلك العام، التي نفّذت بأمر سوري للانقلاب على تقرير اللجنة العربية الأول في حينه، وللتمهيد للاحتلال السوري للمناطق اللبنانية.
هل «زادها» الجنرال يوم السبت؟ بل يبدو أنه للمرة الأولى “سمع” من سمير جعجع. فالأخير هو نفسه من قال في حديث صحافي الى الشهيد جبران تويني في 1 شباط 1988: «وليد جنبلاط كذاب. المشكلة معه أنه كذاب. لا أعرف إذا كانت لديه قناعات... إذا كان للمرء أخصام فليس ذلك مشكلة، إنما أخصام غير شرفاء فهذه كارثة».