جوزف سماحة
تجول وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في المنطقة. تملك فكرة عما يجب أن تكون عليه الاتجاهات السياسية الإقليمية في المرحلة المقبلة. الجديد في هذه الفكرة أنها لم تعد مبنيّة على النجاحات العسكرية الأميركية (في العراق) والإسرائيلية (في فلسطين ولبنان). وإذا كان ممكناً الحديث عن تعثّر في العراق وفلسطين فإن نتيجة الحرب على لبنان أقرب ما تكون إلى الفشل. إلا أنه فشل إسرائيلي من نوع خاص. لقد استولد قلقاً عند أنظمة عربية من أن قوى الممانعة قد تكون أكثر رسوخاً مما ينبغي. يجب لذلك تطويقها وإفهامها أن معركة واحدة لا تحسم الصراع.
جاءت رايس، إذاً، لترسم خطة سياسية تقوم على استثمار مخاوف أنظمة من صمود شعوب ومن عدوى هذا الصمود. هذا هو الأساس السياسي لنظرية «حلف المعتدلين». إنه حلف استئناف الهجوم لتحقيق الأهداف نفسها لكن بعد تعزيزه بأدوات أكثر وإمكانيات أفضل.
نجاح رايس في رحلتها يعني نقل مستوى التوتر الحالي في لبنان إلى مستوى ذلك الموجود في الأرض الفلسطينية المحتلة وفتح الوضعين معاً على أفق... عراقي. والمطلوب دعم عربي رسمي لهذا «النجاح».
ثمة من يشارك في هذه العملية وثمة من يعارض. إلا أننا نلاحظ أن مقاعد المتفرجين ملأى. مقاعد تغص بالمتفرجين الأوروبيين الذين يشجعون «فريق الاعتدال» ولو أنهم يدركون صعوبة فوزه وكلفة انتصاره.
رايس تنشط بين «معتدليها» والأوروبيون في ما يشبه الغفلة. علماً بأن انطباعاً ساد، قبل أسابيع، وبعد المشاركة الأوروبية الكثيفة في القوة الدولية في لبنان، بأن أوروبا تستيقظ. وهناك من ذهب إلى القول إن هذه اليقظة ستدفع الأوروبيين إلى إعلاء صوتهم في ما يخص لبنان طبعاً، ولكن، أيضاً، في ما يخص مشاكل المنطقة.
هناك الآلاف من الجنود الأوروبيين فوق أرض لبنان وفي بحره. إلا أن الغموض يسيطر على حقيقة المهمة المناطة بهم. تصدر إشارات إسرائيلية وأميركية وحتى عربية إلى أن هذه المهمة «متدحرجة» وأنها ستنمو وتتغير وقد تحتمي بقرار لاحق من مجلس الأمن. وتصدر تأكيدات مقابلة بوجود تفاهمات تحدد هذه المهمة وتحصرها بتنفيذ قراءة لبنانية متشددة للقرار 1701. وينشأ اعتقاد بأن الحضور الأوروبي بدل أن يكون طرفاً فاعلاً ذا وجهة سياسية واضحة آخذ في التحوّل إلى موضوع صراع حول مضمونه. وتتصرف الولايات المتحدة حيال لبنان والمنطقة متجاهلة الوجود الأوروبي لا بل معرّضة إياه لمخاطر ليست في ذهن المسؤولين المباشرين عنه.
يجب أن يكون واضحاً، أو هكذا يُفترض، أن الأمن المباشر لهذه القوات شديد الارتباط بالمناخ العام السائد في المنطقة وبما إذا كان متجهاً نحو الهدوء أو الاضطراب. وبما أنه يصعب فصل الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية عن هذا المناخ لا يعود مفهوماً سرّ تجاهل الحكومات الأوروبية لأبسط واجباتها: تأمين الشروط السياسية لأفضل أداء ممكن في منطقة ما زالت نيرانها تحت الرماد.
إن مصارحة للجانب الأوروبي تقتضي القول له إنه لم يوفّر، حتى الآن، تغطية سياسية مقنعة لدوره اللبناني. نضع جانباً التصريحات المنحازة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. نضعها جانباً ولا ننساها. فالمشكلة أكثر تعقيداً. لم نسمع من مسؤول أوروبي واحد كلاماً صريحاً عن مسؤولية القوة الدولية عن السيادة اللبنانية. لم نسمع رداً على الاستهتار الإسرائيلي المتعالي بهذه السيادة. لم نلحظ بادرة تصدٍّ للطلعات الجوية والخروق. لم ننتبه إلى أن هناك من أكد أن الحضور في الجنوب لن يكون مثل الحضور في معبر رفع خاضعاً للمزاج الإسرائيلي. وحتى في ما يخص الغجر والأرض اللبنانية المحتلة كان أي مواطن يتمنى لو أن الصوت الأوروبي كان أكثر ارتفاعاً.
تملك أوروبا في لبنان فرصة أن توجّه رسالة إلى المنطقة عن معنى «الوسيط النزيه» وعن أن الصراعات السياسية لا تدور بين «معسكرات حضارية». وقد لمّح كل من رومانو برودي وماسيمو داليما إلى ذلك غير مرة. إلا أنه يصعب الزعم أن تقدماً جدياً حصل على هذا الصعيد.
ثمة ظروف في لبنان لدور أوروبي خاص. إن من لا يحسن الاستفادة منه لن يستطيع أن يكون حاضراً في الملفات الأخرى وبينها الملف الفلسطيني. فعلى هذه الجبهة ثمة فراغ في مبادرات الحلول، وثمة انكفاء إسرائيلي عن «خطة الانطواء»، و«خريطة الطريق» لم تعد مجدية تماماً، ويعاني طرفا النزاع في فلسطين اضطراباً داخلهما، وإسرائيل ماضية في التوتير.
كانت إسرائيل ترى في ياسر عرفات «عقبة»، ثم انتقلت لترى في محمود عباس عباس «قائداً عاجزاً»، ووصلت إلى أن ترى في «حماس» طرفاً راديكالياً (الأوصاف لكاتب أوروبي). أي، باختصار، كانت تفتش باستمرار بين الفلسطينيين عن شريك... صهيوني. والواضح أن الرأي الأميركي ــ الإسرائيلي قرّ الآن على أن أبو مازن يمكنه أن يكون شريكاً إذا تخلّص من شريكه، «حماس»، في السلطة، أي إذا قاد الوضع الفلسطيني نحو الدمار.
إن هذا ما تحاوله رايس علماً بأن أوروبا هي الأكثر حضوراً في الساحة الفلسطينية. غير أنه حضور يمنع نفسه من المبادرة ويكتفي بالمراقبة ويعجز عن تحويل «يقظته» اللبنانية إلى مساهمة فعالة.
من المؤسف أن يحصل ذلك في وقت يتأكد فيه للعالم كله، وللأميركيين أيضاً، مبلغ الخراب الذي تتسبب به هذه الإدارة في المنطقة. فالمناقشات الدائرة في واشنطن، هذه الأيام، توحي أن كل من عارض مغامرات السنوات السابقة كان على حق. إن القيادة الأميركية «عارية» فلا مبرر للتسليم بها. وليس في جولة رايس الشرق أوسطية ما يُقنع بأن المسؤولين الأميركيين يتعلمون من أخطائهم (الأخطاء؟ أي أخطاء؟).
قيل إن الحرب اللبنانية لم تدفع أوروبا إلى اليقظة بل إلى التثاؤب. فهل تعود، ورايس في المنطقة، إلى حالة الغفلة؟