جاد نصر اللّه
في الثالث عشر من تموز المـــنصـرم، وبعد ساعات قليلة على إعلان الحرب الأخيرة، وقف رامي عزيز مطر وقفته الأخيرة أمام لجنة للتحكيم ليناقش رؤيته لإعادة إعمار القسم الغربي من الضاحية الجنوبية. في اليوم نفسه، كان التدمير المنهجي للضاحية قد بدأ

قبل سنة ونصف سنة، كان على رامي، الطالب آنذاك في جامعة الروح القدس ــ الكسليك، تحديد موضوع تخرّجه. كان قد قرر مسبقاً ماذا يريد: إعادة تأهيل منطقة الأوزاعي وتطبيق الدراسة على مناطق ضاحية بيروت الجنوبية. «تجنّبت الأفكارالعشوائية. أردت تقديم شيء مختلف من أجلنا نحن الناس ذوي الدخل المحدود، الذين نعيش بما نملك بين أيدينا من إمكانيات».
واجه مطر في بادئ الأمر معارضة كبيرة من أساتذته وإدارة الجامعة، فـ«حجم المشروع كبير، وإتمام دراسته يحتاج الى وقت أكثر من المسموح به، والى امكانات تتجاوز قدرات طالب جامعي». لكنّ رامي وَثِقَ بنفسه وقَبِلَ التحدي. عَمِلَ طويلاً على تحقيق حلمه، ولم يخطر له أن إمكانية تنفيذه والإفادة منه أصبحت في متناول اليد بعد الحرب الأخيرة على لبنان، فقط لو يوجد من يؤمن بالمشروع ويتبنّاه.
بدأ رامي من حيث انتهت الدولة. أعاد قراءة مشروع «أليسار» الذي تقدمت به الحكومة اللبنانية قبل أكثر من عشر سنوات. رأى فيه العديد من نقاط الضعف والأخطاء الجسيمة، منها «عدم احترام نمط حياة السكان المحليّين، والنقص الظاهر في تقسيم التجمعات والوحدات السكنية كما توزيع المساحات والتنظيم المديني، إضافة الى كون الطراز المعماري للأبنية المستحدثة منفصلاً تماماً عن الثقافة العربية ــ الشرقية». أسوأ ما في الأمر بالنسبة إليه كان إسقاط عِمارات جديدة في شكل عشوائي لا مراعاة فيه لخصوصية المكان وثقافته.
ينظر رامي الى الأوزاعي كمسألة يجب التعامل معها من خلال الشروط الاقتصادية والاجتماعية المتوافرة والتي لا يمكن محوها بهذه السهولة. فـ«عُمر المكان قارب سبعين سنة، وبعد ثلاثين سنة من الآن يحق لأهلها إدراجها على لائحة التراث العالمي». والمدينة التي سُميت تَيَمُّناً بأحد أئِمّتها امتدّت واتّسعت رقعة انتشارها من حول الجامع الأثري الذي يعود تاريخه الى القرن الثالث عشر ميلادي، فكان بذلك القطب الأساسي الذي تمحورت من حوله كل وظائف المدينة. امتدت السوق على جانبي الطريق السريع وتفرعت الشوارع والأحياء والأزقة واكتظت بأناس صاروا في ما بعد سكانها الأصليين. تُبَيّن صُوَر أولى المنازل القديمة التي حصل عليها رامي في رحلة بحثه، تميّزها بخصائص المنزل العربي الاسلامي، إذ تلتف الغرف حول حوش داخلي ويُلاحظ الفصل الواضح بين ما هو «عام» وما هو «خاص»، المسائل التي لم تحترمها «أليسار» ولم تأخذها في الحسبان.
في النص المكتوب، يقول إنه أعطى «أولوية للتخطيط المديني على المشروع المعماري» كأحجام ترتفع في الفضاء من دون أهداف واضحة. نجح في توفير ممر هبوط آمن للطائرات (cone d’approche) كما تفرضه المواصفات وشروط السلامة العامة. وبحسب الخرائط التي صممها، يمكن إعادة تشغيل مدرج المطار المستخدم حالياً كطريق سريع للآليات بعد أن حوّرت وجهة استعماله بعد الحرب الأهلية.
وقسّم المناطق تبعاً للأهمية، فهو ضد المنطق القائل بحصر الإقامة في المشروع الجديد بمن يمتلك القدرة المالية على ذلك. فأقام فيالطرف الجنوبي تجمعات صناعية، وفي الطرف الغربي التجمعات السكنية. وفصل بينها وبين الأماكن العامة (ملاعب وحدائق) بالأسواق التجارية التي أرادها مساحة وسطية تضمن انتقالاً سلساً بين حيّز وآخر. ولحل مشكلة الاكتظاظ السكاني، سعى إلى توفير كبير في مساحة استثمار الأرض وشغلها بالأعمال الانشائية. فتوصّل الى وحدات سكنية توفر الخدمات الأساسية لقاطنيها من غرفة معيشة وغرف نوم وملحقاتها. تتراكم هذه الوحدات بعضها فوق بعض فتولّد الفراغات بين الأحجام المتراصة. ومن خلال هذه الفراغات تستوفي كل وحدة حقها من الهواء ونور الشمس والضوء الطبيعي. تُركّب هذه الوحدات من مواد مصنعة مسبقاً (prefabrication)، ولا تزيد كلفة المسكن الواحد على 28 ألف دولار. ويبقى الأهم أن وقت التنفيذ قصير جداً بحيث لا تضطر معه الجهة المتعهّدة إلى توفير مساكن بديلة للمالكين والمستأجرين إلى حين انتهاء أعمال البناء.
أمضى المهندس الشاب وقتاً طويلاً في الأوزاعي. سار في شوارعها وأزقّتها. اقتحم يوميّات أهلها وتطفّل على خصوصيّتهم. لم يتسنَّ له التقاط الكثير من الصور. «كان صعباً أن تسير والكاميرا في يدك، شارحاً لكل شخص عن هدفك الحقيقي». اعتمد على ذاكرته في تخزين المعلومات وتسجيل الانطباعات عن الأهالي وأسلوب حياتهم. انطلق من بساطة العيش الذي ينعمون به. جُلّ ما ابتغاه تقديم شيء بحجم أحلامهم، والمحافظة على أسلوب عيشهم: بيت وعائلة وصناعة خفيفة.