جوزف سماحة
حصل ما كان في الحسبان. فجّرت كوريا الشمالية قنبلة نووية. لا نعرف تماماً إن كانت تملك سلاحاً نووياً قابلاً للنقل (تملك الصواريخ البعيدة المدى) ولكن يمكن الجزم بأنها دخلت «النادي».
كانت الأنظار متّجهة كلها إلى تعثّر المفاوضات مع إيران. كان مجلس الأمن يستعدّ للاجتماع من أجل النظر في العقوبات على طهران. كانت كوندوليزا رايس تجول في المنطقة لإنشاء «جبهة معتدلين» ضد التطرف والإرهاب... ولكن الخطوة الكورية خطفت الأبصار والكاميرات. ها هي جمهورية العزلة، وتجربة الغرائب الاشتراكية، ودولة ثنائية التخلّف الشامل والتقدم العلمي العسكري... ها هي دولة الانغلاق التام، والزعيم الأوحد، وضحايا المجاعات تعلن أنها افتتحت عصراً جديداً يترك العالم كله مذهولاً. لم يكن للمتوقع أن يثير هذه الدهشة كلها. ربما أصبحت كوريا أكثر أماناً، وهذا للبحث، ولكن هذا التقدير لا ينسحب على آخرين.
قوة التفجير 4 درجات على مقياس ريختر. قوة ردود الفعل 8. لكن قوة الأفعال قد تكون أقل. كانت الاحتجاجات شاملة والإدانات إجماعية. لا تباين إلا في بعض الصياغات. ولكن، منذ الساعات الأولى، بدا البون شاسعاً بين حدّة الغضب والقدرة على التدخل. الحديث عن عزل كوريا المعزولة يكاد يكون مضحكاً. الحديث عن عقوبات فوق العقوبات ربما يشير إلى مخاطر. الحديث عن قطع المساعدات الإنسانية لن يخيف سوى من بقي من الأحياء.
إن أي تفجير نووي هو حدث كوني من الدرجة الأولى. ويخطئ من يعتقد، في هذه المنطقة، أنه غير معني به. هذه بعض دلالات الخطوة:
أولاً ــ لقد تعرّض نظام منع انتشار الأسلحة النووية لانتكاسة خطيرة. وكذلك الأمر مع مؤسساته. لقد كان المنع هدفاً مركزياً لسياسات دولية ولكن الثغرة التي شهدها قد تعرّضه للتصدع. لقد حصل، قبل سنوات، اختراق هندي ثم باكستاني إلا أن العالم اعتاد العيش معه وها نحن نرى الدولتين تتمتعان بعلاقة جيدة مع الغرب كله مرة باسم الحجم البشري والاقتصادي وضرورات موازنة الصين، ومرة ثانية باسم الأولوية للحرب على الإرهاب الأصولي.
ثانياً ــ لقد بات مشروعاً التساؤل عما إن كانت الدبلوماسية فاعلة. لا بل إن السؤال الجدي هو عما إن كانت الدبلوماسية موجودة. ففي الملف الكوري، مثلاً، حصلت مفاوضات متعددة شاركت فيها دول إقليمية وبعيدة. إلا أنها كانت خالية من أي مضمون جدي.
إن ما يجب قوله، في هذا المجال، هو أن الإدارة الأميركية الحالية تكاد تكون قد ألغت الدبلوماسية (جولة رايس الأخيرة في منطقتنا اقتصرت على أصدقاء فيما الدبلوماسية تستوجب توسيع الإطار). التفجير الكوري هو، في جانب منه، تفجير للسياسة الخارجية الأميركية الحالية. يجب أن نتذكّر أن بيل كلينتون نجح في تجميد البرنامج الكوري وكاد يصل إلى نتيجة. ويجب أن نتذكر أن بوش تعمّد الاستفزاز وإظهار الاحتقار إلى حد أنه أحيا البرنامج. ولما تم التوصل، في لحظة، إلى رزمة حوافز قام البيت الأبيض بإلغائها. رفضت واشنطن أي حوار ثنائي، ورفضت تقديم ضمانات، وأصرّت على تصوّر للعلاقات الدولية يجعلها تقبض ولا تدفع... أكثر من ذلك تحررت الولايات المتحدة من معاهدات دولية ذات صلة بالسلاح والبيئة (وصولاً إلى إعادة كتابة «معاهدة جنيف»)، ورفضت خفض ترسانتها النووية، ووسّعت الأحلاف العسكرية الموالية، وطوّرت الأسلحة النووية التكتيكية، وأدخلت استخدامها في صلب عقيدتها الدفاعية حتى ضد دول غير نووية، واعتمدت قاعدة الضربة الاستباقية، واحتلت بلداً بناءً على هرم من الأكاذيب، وشرعت في تهديد جيرانه باتهامات غير موثّقة، وتسامحت قبل ذلك كله مع إسرائيل.
باختصار فعلت الولايات المتحدة كل ما في وسعها لنشر الخوف منها، ولكسر الضوابط الدولية. لقد قيل لها، مراراً، إن سياستها تشجع دولاً على امتلاك قوة ردع لكنها استخفّت بذلك. ها هي الآن تواجه أزمة استثنائية في أهميتها ستضاف إلى سلسلة الأزمات المفتوحة والمتروكة من غير علاج.
ثالثاً ــ يشير التفجير الكوري إلى دخول «النظام العالمي» مرحلة متقدمة من الفوضى. ومرة أخرى نجد الولايات المتحدة مسؤولة. «القاعدة» تهاجم فيكون الرد في العراق. تستغل كوريا فرصة الحرب لطرد خبراء الوكالة الذرية الدولية وللشروع في تطوير سلاحها فتشنّ واشنطن حملة على... إيران. تدعو كوريا الجنوبية إلى نهج احتوائي للشطر الشمالي فيتعمّد المحافظون الجدد إسقاطه. ويستمر بوش في إطلاق التصريحات: لن نقبل، لن نحتمل، لن نطيق... ولكن أحداً لا ولن يعرف طبيعة الرد.
قد يؤدي التفجير الكوري إلى إطلاق سباق تسلح في تلك المنطقة. وقد يشجع على نمو التيارات القومية المتطرفة كما شهدنا في وصول تشينزو آبي إلى السلطة في اليابان قبل أيام. إن المنطقة منطقة براكين هادئة من نوع خاص. فهي زاخرة، وحدها بين بقاع الأرض، بالمشاكل الموروثة من أيام «الحرب الباردة». ينطبق ذلك على الانقسام الكوري، وعلى عدم التسلح الياباني، وعلى نزاع الصين ــ تايوان، وعلى جزر الكوريل، وعلى الانتشار العسكري الأميركي، وعلى عدد من الاتفاقات الأمنية... يصعب تقدير ما يمكن لحجر أن يفعله في هذه البركة.
غير أن التفجير الكوري هو، في الحقيقة، حجر يُلقى في «البركة الكونية». فهو يحصل في ظرف خطير يتّسم بثلاث خصائص: تعيين الولايات المتحدة للشرق الأوسط الكبير بصفته مسرح العمليات للأجيال المقبلة، تعثّر المحاولات الجارية حتى الآن لإعادة صياغته، المثابرة الأميركية على الاستمرار عبر إنشاء محاور تخدم معاركها المقبلة.
لقد سبق لبوش أن أقام جمعاً بين كوريا ومنطقتنا عبر حديثه عن «محور الشر» الشهير. احتل العراق لاحقاً وشرع في تهديد إيران. إلا أنه تغافل عن البرنامج النووي الكوري. لا بل وصل الأمر بأركان إدارته إلى حد تكذيب كوريا عندما كانت تؤكد الطابع العسكري لبرنامجها وتكذيب إيران عندما تؤكد الطابع السلمي لبرنامجها.
لقد قيل عند ضم كوريا إلى «محور الشر» إن القصد من ذلك الإيحاء بأن «المشكلة» ليست مع «مسلمين» فقط. ولكن الصحيح هو أن كوريا خطر في ذاتها ولكنها أخطر بسبب المنسوب إليها من عمل على نشر الصواريخ والتكنولوجيا البالستية والنووية وخاصة في هذا الشرق الأوسط الكبير.
لنتابع ما سيجري في الأيام المقبلة. نراهن أن الضجة ستعلو ضد كوريا الشمالية وأن تدابير ستتخذ. ولكننا سنشهد، شيئاً فشيئاً، انزلاقاً يُراد منه التأكيد أن قدرة كوريا على نشر التكنولوجيا النووية هي أشد خطراً بما لا يقاس من قدرتها النووية. وبهذا المعنى سترتفع الأصوات محذرة من إيران، ومشددة على ضرورة المعالجة الجذرية للتطرف والإرهاب بين العرب والمسلمين.
لماذا سيحصل ذلك؟ سيحصل لأن الملف النووي الكوري، المرتبط ببقايا «حرب باردة» سابقة هو ملف قابل للإدارة والضبط. أما «ملفاتنا» المرتبطة بحرب مقبلة، أو بحروب مقبلة، فهي الموضوعة في خط المرأى. وتملك كوريا، بهذا المعنى، ورقة تفاوضية قوية. إذ يكفيها أن تتعهّد عدم نشر السلاح والتكنولوجيا حتى تنكسر حدّة الهجمة عليها من دون أن تختفي تماماً.
يزيد التفجير الكوري من حراجة الوضع في الشرق الأوسط. يمكن القول إن المخاطر اشتدت. ارتفع التوتر على مقياس ريختر. لن يلهي الفشل الآسيوي واشنطن عن سياستها هنا. فهذه السياسة تتقدم هنا أو تفشل هنا.