نقولا ناصيف
عشية اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، كان العميد ريمون اده ــ الذي غالباً ما يتوصل السياسيون (فضلاً عن العهود) الى اقتناعاته متأخرين عشرات السنين، كاتفاق القاهرة والبوليس الدولي (القوة الدولية) في الجنوب ــ يصف تحالفه مع الرئيسين صائب سلام ورشيد كرامي بـ«بيسيكلات» من ثلاثة دواليب قبل أن يفترق كرامي عن رفيقيه ويصبحا «بيسيكلات بدولابين» كما قال اده أيضاً. آنذاك كان كمال جنبلاط على رأس «الحركة الوطنية» متحالفاً مع المقاومة الفلسطينية، والرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل متحالفين. وكان الاستحقاقان الداهمان هما السيادة والتجاوزات الفلسطينية المسلحة والتدخل في الشؤون اللبنانية، وتحقيق المشاركة في السلطة. وتباعاً دمجت «الوساطة السورية» الاستحقاقين بعضهما ببعض كي تكون الحرب لبنانية ــ لبنانية. اليوم ثمة ما هو مماثل.
بيسيكلات من ثلاثة دواليب تجمع سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، وثانية من دولابين تجمع نبيه بري وحسن نصر الله، وثالثة من دولابين كذلك تجمع نصر الله وميشال عون، وبيسيكلات رابعة من دولابين تجمع إميل لحود والأحزاب الحليفة لسوريا. والاستحقاقان الداهمان اثنان أيضاً: التدخل السوري في لبنان (السيادة)، والتوازن في السلطة.
وهكذا، بعد أكثر من 30 عاماً كأن ما تغيّر قليل قليل. ظلّت البيسيكلات نفسها تقريباً، وصار بعض راكبيها من وارثي الأوائل آباء أو خلفاء. ولكن المشكلات هي نفسها: السيادة، الفلسطينيون أو السوريون، المشاركة في الحكم.
اليوم يبدو الاستحقاقان الظاهران وجهاً لوجه لراكبي البيسيكلاتات: أيهما يسبق الآخر: تأليف حكومة اتحاد وطني أم انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ الأول توقيته سياسي غير ملزم، والآخر دستوري مقيّد. والسجال من حولهما يضاعف الخلاف عليهما كي يفرض كل من الطرفين الرئيسيين المعنيين، قوى 14 آذار، والفريق الشيعي وعون، إرادته على الآخر. والواضح أن جوهر المشكلة هو أن قوى 14 آذار لا تعترف بوجود حكومة اتحاد وطني حتى توافق على تأليفها، انطلاقاً من قاعدة تتشبّث بها، هي أن الحكم الآن هو للغالبية المنبثقة من انتخابات 2005. في المقابل يقلب الفريق الشيعي وعون الأولويات ويرفض الخوض في أي تسوية على رئاسة الجمهورية قبل تأليف حكومة اتحاد وطني، ويرى في الوقت نفسه تبريراً لمطالبته بإسقاط حكومة السنيورة، أن هذه لم تعد مؤهلة للإشراف على انتخابات رئاسة الجمهورية خريف 2007.
بذلك يضع كل من الطرفين عقبات في وجه الآخر من شأنها دفع الوضع الداخلي الى فراغين خطيرين، حكومي ورئاسي، ما لم يتداركا هذه المجازفة. والواقع أن ثمة ملاحظات ترتبط بموقف كل منهما:
1 ــ لن يكون في وسع الغالبية الحاكمة الحالية (71 نائباً) تأمين نصاب ثلثي مجلس النواب لافتتاح جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية من دون التعويل على إحدى كتلتين رئيسيتين في إمكانهما استكمال النصاب الموصوف لجلسة الانتخاب، وهو 86 نائباً: كتلة عون التي تضم 22 نائباً (ضمناً النائب بيار دكاش)، وكتلة بري التي تضم 16 نائباً. على أن عدد نواب كتلة «حزب الله» (14 نائباً) غير كاف في أي حال لاستكمال هذا النصاب. المشكلة، إذاً، جدية ومستعصية الحل لإيصال 86 نائباً الى مجلس النواب من دون بري أو عون. أما الرهان على انتزاع رئيس المجلس من تحالفه مع نصر الله من حيث التمييز الذي يظهره في بعض مواقفه وآخرها تحبيذه اتفاقاً مسبقاً على حكومة الاتحاد الوطني قبل إسقاط الحكومة الحالية، فهو في غير محله، وذلك لأسباب شتى أبرزها اثنان: أولهما الخلاف العميق في تفسير كل من بري والغالبية الحاكمة المادة 49 من الدستور التي تحدد نصاب انعقاد الجلسة ونصاب كل من دورتي الاقتراع الأولى والثانية. وثانيهما أن رئيس المجلس يعترف بما تنكره الغالبية، وهو وجود حكومة اتحاد وطني.
2 ــ لم يشهد تاريخ الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1943 وجود حكومة غالبية تحكم. في ظل الدستور السابق، كانت الحكومات هي حكومات رئيس الجمهورية الذي كان يترأس السلطة التنفيذية ويتعاون على تأليفها برأي مرجّح مع رئيس الحكومة المكلّف. وفي مرحلة متقدمة، وخصوصاً مع عهد الرئيس شارل حلو، دَرَجَ عُرف اتفق عليه الرئيسان قضى بأن يسمّي رئيس الجمهورية الوزراء المسيحيين ويوافق على الوزراء المسلمين الذين يسميهم رئيس الحكومة لكون رئيس الجمهورية رئيس السلطة التنفيذية. أما التحوّل في بنية السلطة التنفيذية فحصل بعد تعديل الدستور عام 1990، آخذاً بإصلاحات اتفاق الطائف، على نحو جعل دمشق هي التي تسيطر على مجلس الوزراء، لم يعد رئيس الجمهورية رئيسه. عند ذاك اختُرِعت فكرة الغالبية التي تتحكم في السلطة التنفيذية. لكن المقصود بها كان الغالبية الموالية لسوريا التي تهيمن على القرارات الحكومية. وكان في صفوف هذه الغالبية وزراء مسيحيون ومسلمون مؤيدون لسوريا. بل كان معظمهم ـ تفادياً للتعميم ـ يتولى تدوين محاضر جلسات مجلس الوزراء وينقلها فوراً الى كل من اللواءين غازي كنعان ورستم غزالي، وقبلهما الى نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام. هي إذاً أكثرية موالية سورية في حكومات كانت تتألف من هذه الأكثرية وحدها. وكثيرون سمعوا الشكوى المتكررة للرئيس الراحل رفيق الحريري من أنه لم يكن هو مَن يختار كل وزراء حكومته. ولا طبعاً الرئيس الراحل الياس الهراوي.
3 ــ قد يكون بري ــ وجنبلاط أيضاً ــ أبرز مَن خَبِرَ حكومة الاتحاد الوطني العشرية التي تألفت في 30 نيسان 1984، وضمّت الأقطاب الذين كانوا يتصارعون على السلطة وعلى السيطرة الميدانية بعد «حرب الجبل» و«انتفاضة 6 شباط». كان قد أوجبها الانهيار الشامل في البلاد وراعى تشكيلها التمثيل السياسي للزعماء، وفي الوقت نفسه رجال الميليشيات الممسكين بالشارع. وكانت آنذاك التسوية التي أعدّتها دمشق واستعاضت بها عن دعوة المعارضين الى تقصير ولاية الرئيس أمين الجميل. ولكنها لم تكن حكومة الاتحاد الوطني الأولى. قبلها كانت الحكومة الرباعية في 14 تشرين الأول 1958 من وزيرين مارونيين هما بيار الجميل وريمون إده ووزيرين سنيين هما رئيسها رشيد كرامي والحاج حسين العويني. ثم كانت حكومة رباعية ثانية في 20 تشرين الأول 1968 من وزيرين مارونيين هما الجميل وإده و وآخرين سنّيين هما رئيسها عبد الله اليافي والعويني. وفي الحكومتين لم يُوزّر شيعي اعتقاداً من أركان الحكم أن المطلوب تمثيل سياسي لطرفي النزاع والاشتباك في الشارع لا تمثيل الطوائف. كان عبد الله اليافي عام 1968 كرشيد كرامي عام 1958 الفريق المناوئ لبيار الجميل أكثر منه لريمون إده: قال كرامي إنه يترأس حكومة «قطف ثمار الثورة» تكريساً لهزيمة المسيحيين في «ثورة 1958» عندما رأى البعض أن انتخاب الرئيس فؤاد شهاب بتأييد ناصري هو الترجمة الفعلية لذلك. وكان اليافي رأس حربة الدفاع عن السلاح الفلسطيني وحماية بقائه في لبنان. لم يُشكّك أحد في شرعيتي حكومتين لا وزير شيعياً أو أرثوذكسياً أو درزياً أو كاثوليكياً فيهما. ولكنهما حددتا مهمة حكومة الاتحاد الوطني: تصفية ذيول «ثورة 1958» للأولى، وتوحيد الموقف اللبناني من التجاوزات الفلسطينية المسلحة للثانية.
ما أقرب الشبه بين ما حصل في الأمس البعيد وما يحصل اليوم.