جوزف سماحة
أربع حكومات في المشرق العربي تعاني مشكلات: اللبنانية، الفلسطينية، العراقية، و... الإسرائيلية. تتدخل الإدارة الأميركية في ثلاث من هذه الحالات وتترك للرابعة أن تتطوّر كما تشاء.
رأى الرئيس جورج بوش في مؤتمره الصحافي أول من أمس أن «مساعدة حكومة السنيورة على النجاح هي من أولويات الحكومة الأميركية». لا جديد في الأمر. هذه السياسة معلنة منذ فترة طويلة. الجديد هو أن بوش قفز من فوق الاعتراضات اللبنانية الداخلية على نهج هذه الحكومة لكي يوجّه رسالة إلى سوريا طالباً منها عدم «تقويض حكومة السنيورة» (... ومساعدة إسرائيل في استعادة الجندي الذي أسرته «حماس» وعدم مساعدة «حماس» و«حزب الله» على شنّ هجمات على الديموقراطيات في الشرق الأوسط).
ما إن وجّه رئيس المجلس نبيه بري دعوته إلى «التشاور» في موضوعَي حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخابات الجديد حتى كان بوش يتدخل معتبراً أن لا أساس لبنانياً للاعتراض والمعارضة. لم يعد باقياً لنا إلا أن ننتظر ونرى رد فعل «أصدقائه» اللبنانيين الذين أحرجتهم الدعوة.
تطرّق بوش، كذلك، وبشكل خاص، إلى وضع الحكومة العراقية الفتيّة. قال ما حرفيته «نمارس ضغوطاً على القادة العراقيين ليتخذوا إجراءات تتسم بالجرأة لإنقاذ بلدهم. ونقول بوضوح إن صبرنا ليس بلا حدود. ونفهم أيضاً التحديات الصعبة التي تواجه الزعماء العراقيين ولن نمارس عليهم ضغطاً يتجاوز قدرتهم على الاحتمال».
إشارة بوش إلى العراق أكثر وضوحاً من إشارته إلى لبنان. فهو يتحدث عن «ضغط» و«عن صبر محدود». لكن يبدو أنه يطلب من نوري المالكي الإقدام على خطوات فيما لا ضرورة لمطالبة فؤاد السنيورة بالمثل. في الحالين يحدد بوش «واجبات» الجيران (إيران وسوريا) ولكنه يميّز بين المالكي والسنيورة لصالح الثاني.
طلبات الرئيس الأميركي من المالكي سياسية وأمنية. طلباته من السنيورة تكاد تكون أمنية فقط. يريد من الاثنين التعاطي الحاسم مع ميليشيات مسلحة مع فارق أنه يعطف ذلك، في الحالة العراقية، على اقتراح توسيع المشاركة السياسية فيما يعطف الأمر، في الحالة اللبنانية، على «التصدي للهجمة على الديموقراطية»، أي، عملياً، على تقليص المشاركة السياسية لـ«حزب الله».
وليس سراً أن رغبات بوش تكاد تكون مستحيلة في بغداد كما في بيروت. فلا المالكي ينوي أو يقدر على تفجير حكومته من الداخل بقمع «الميليشيات»، ولا السنيورة بقادر على إنجاز مهمة فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيقها.
يبقى أن إنقاذ الحكومتين ودعمهما شعاران يحددان وجهاً من وجوه السياسة الأميركية في المنطقة. العكس هو الصحيح في ما يخص الحكومة الفلسطينية. ففي هذا المجال لا يعود مهماً، برأي بوش، أنها حكومة منتخبة، ولا يعود مهماً توسيع المشاركة السياسية. على العكس، تصبح الوسائل كلها مشروعة من أجل إسقاط إسماعيل هنية ولو كان ذلك عبر الحصار والتجويع وتشجيع العدوانية الإسرائيلية والتسامح مع عودة الاحتلال والتلويح بالحرب الأهلية. أكثر من ذلك، لقد أعلنت واشنطن أنها ستدعم مالياً وتنظيمياً ولوجستياً قوى ضد «حماس»، وأنها تنوي فرض ازدواجية السلاح عبر احتضان قوات أمنية تابعة للرئاسة الفلسطينية وهي التي حاولت تجريد هذه الرئاسة من عناصر قوتها أيام الراحل ياسر عرفات.
بوش مع السنيورة بلا تحفّظ، مع المالكي بقدر من التحفظ، ومع محمود عباس ضد حكومته بلا تحفظ. «الوحدة الوطنية» مرفوضة في حالة، مقبولة بشروط في ثانية، منبوذة في ثالثة. ازدواجية السلاح جريمة في حالة، غير محببة في ثانية (إلا إذا كانت تعني «البيشمركة»)، مطلوبة في ثالثة.
يطال التدخل التفاصيل في الحالتين الفلسطينية والعراقية، حيث الاحتلال العسكري قائم. ونعرف في لبنان أن هذه التفاصيل ليست غائبة عن سفراء دول الوصاية لأنه لا احتلال مباشراً ولأن موازين القوى لا تسمح بأكثر.
على المقلب الآخر، المقلب الإسرائيلي، يتأكد يوماً بعد يوم أن القرار اتخذ بضم رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» إلى الائتلاف بعد استحداث حقيبة «التهديد الاستراتيجي» اللائقة بالخبرات الاستثنائية لأفيغدور ليبرمان! سيكون الرجل مشرفاً على التنسيق بين الموساد والأجهزة الاستخبارية كلها ولجنة الطاقة الذرية والجيش الإسرائيلي ومجلس الأمن القومي، علماً بأن كفاءته الوحيدة في هذا المجال أنه صاحب أكثر المواقف تطرفاً حيال «أعداء» كما حيال حكومات «مسالمة» (اقترح، ذات مرة، قصف سد أسوان).
الأهم من ضم ليبرمان إلى الحكومة التوافق الذي حصل على ذلك وجاء معبّراً عن تدهور حزب «العمل» إلى قعر جديد من الانتهازية والوصولية والانحياز إلى اليمين القومي. ولقد كان لافتاً أن عمير بيرتس وافق على الانضمام مقابل رشوة تمثّلت بترؤسه لجنة لرعاية عرب 48 أي، بالضبط، العرب الذين يدعو ليبرمان إلى ترحيلهم وطردهم من بلادهم!
من المؤكد أن لا مكان لأمثال ليبرمان في أي حكومة غربية ديموقراطية. ومن المؤكد أن اليمين الأوروبي المتشدد كان سيخجل من المشاركة في سلطة يتقاسمها مع حزب مثل «إسرائيل بيتنا» الذي يفترض به تذكير الجميع بشياطين الماضي القريب النازية والفاشية.
إلا أن ذلك، يحصل في إسرائيل كأنه أمر طبيعي. يتوقف البعض عند مغزى ذلك غير أن الدول المعنية لا تقيم اعتباراً للرسالة الموجّهة إلى العرب والمسلمين والديموقراطيين في العالم والمتمثلة في توزير ليبرمان. إنها رسالة وداع لأي وهم بتسوية أو بحل أو بهدنة. إنها رسالة تدين باعثيها والموافقين عليها والساكتين عنها. غير أننا نلاحظ أن الإدارة الأميركية المهتمة بمصائر حكومات المشرق العربي غير مبالية إطلاقاً بالمنحى الذي تسلكه حكومة إسرائيل إذ تتوسع يميناً وتستوعب وزيراً «استراتيجياً» هو الأقرب، أيديولوجياً، إلى دُعاة التهجير والترانسفير والتطهير الإثني.
القول إن الولايات المتحدة غير مبالية ليس دقيقاً. إنها مهتمة فعلاً بقطع أي مساعدة عن الشعب الفلسطيني، ومهتمة بدفعه نحو الاحتراب، ومهتمة بإعادة صياغة المنطقة بما يقود، عملياً، إلى إنجاح مشروع ليبرمان.