نقولا ناصيف
يسابق التشنّج السياسي الموعد الجديد لطاولة التشاور الاثنين المقبل، ويبدو أن طرفي النزاع يخوضان أكثر من معركة في آن واحد، وتكاد تكون عناوين هذه المعركة ــ المترابطة أساساً ــ هي نفسها لديهما على السواء: حكومة وحدة وطنية أولاً أو انتخابات رئاسة الجمهورية، المحكمة الدولية أولاً أو حكومة الوحدة الوطنية. في خضم هذا التجاذب، انقطعت قنوات الحوار تماماً بين الغالبية الحاكمة والمعارضة، وبين الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ورئيس تيار «المستقبل» النائب سعد الحريري. وتكاد تكون مقطوعة أيضاً قنوات أمنية محدودة بين الطرفين غالباً ما أبقت صلة اتصال مفتوحة لمواجهة أي حادث طارئ يقع بين أنصار هذا الفريق وذاك. ويذهب مسؤول معني بالعلاقة بين الرجلين الى القول إن أحداً لا يتوقع اجتماعاً مغلقاً بينهما في مدى منظور لأسباب عدة قد يكون أبرزها انهيار عامل الثقة بينهما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي لم تضع كلاً من نصر الله والحريري في موقع المناوئ للآخر فحسب، بل نسفت كل مفاعيل الحوارات الليلية السابقة التي كانا قد أجرياها على هامش مؤتمر الحوار الوطني. وأضحى لكل من الرجلين خيارات تقف على طرف نقيض من خيارات الآخر.
ومع أنه ليس في وسع أحد التكهّن بمآل التشنّج الحالي، يضع الرئيس نبيه بري أكثر من علامة استفهام على «النيات» المتصلة بهذا التصعيد، من غير أن يكون قادراً على الإجابة عن السؤال الغامض: أيهما يسبق الآخر، الشارع أم التشاور؟ وخصوصاً أن تأجيل التشاور أوحى تأجيلاً مماثلاً للتشنّج فسحاً أمام مزيد من الاتصالات. لكن ذلك لم يحصل.
ولا يتردّد رئيس المجلس في القول أمام زواره إنه «قلق جداً من التشنّج الحاد» الذي يرافق السجال السياسي. وهو لا يرى مبرراً لتزايد وتيرته يوماً بعد آخر، وكلما اقترب موعد التئام طاولة التشاور. مع ذلك لا يُبدي خشيته على محاولته الجديدة لجمع الزعماء اللبنانيين حول طاولة مجلس النواب، ويعتقد أن اللجوء الى التصعيد بغية الضغط على طاولة التشاور سيكون مخيّباً، لسببين على الأقل:
* أولهما، أنه تلقى وعوداً صريحة وتأكيدات من الأقطاب المدعوين الى طاولة التشاور بالحضور، بمن فيهم الذين سبق لهم أن تذرّعوا بأسباب امنية (في إشارة ضمنية الى رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع).
ويضيف رئيس المجلس أنه وجّه الدعوة الى اجتماع يوم الاثنين بعدما تبلّغ رسمياً مشاركة الأقطاب. لكن ذلك لا يحول دون الإعراب عن قلقه من المرحلة التالية لالتئام الطاولة، ويتساءل: «هل يريدون بالفعل التوصل الى تشاور مجدٍ استناداً الى جدول الأعمال الموضوع؟».
* ثانيهما، أن جدول الأعمال المقترح لطاولة التشاور لا يزال هو نفسه: البندان اللذان حددهما بري. وخلافاً لما تقول به قوى 14 آذار، يعتقد رئيس المجلس أن البند الثاني في جدول الأعمال، المتعلق بالقانون الجديد للانتخاب، يشكّل همّاً رئيسياً ومطلباً لهذا الفريق، وخاصة في ضوء الصيغة التي انتهت بها اللجنة الوطنية المكلفة وضعه برئاسة الوزير السابق فؤاد بطرس. وقد ذكّر وفد قوى 14 آذار الذي زاره يوم السبت الفائت في عين التينة بأن التحفظين الأساسيين اللذين قوبلت بهما صيغة القانون التي اقترحتها اللجنة الوطنية كانا أولاً من البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير الذي وصفها بأنها «غير مفهومة»، ثم من رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الذي وصفها بأنها «معقدة»، في حين أن أياً من أفرقاء المعارضة، أو قوى 8 آذار، لم يعترض على الصيغة تلك.واستخدم بري حجته هذه ليقول لوفد قوى 14 آذار إنه يرى ان من الصائب مناقشة هذا الموضوع حول طاولة التشاور حتى إذا تمّ التوافق على الصيغة المناسبة للقانون الجديد للانتخاب، سواء التي اقترحتها اللجنة الوطنية أو سواها، يُترَك القرار لمجلس النواب من أجل الدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة بناء على القانون الجديد المتفق عليه بإجماع الأفرقاء اللبنانيين. ولم يرَ بري سبباً للتهويل على الوفد الزائر عبر طرح انتخابات نيابية مبكرة «لأن المرجعية المعنية ببت تقصير ولاية البرلمان بغية إجراء انتخابات عامة مبكرة هي المجلس الحالي، وصاحبة القرار الفعلي في هذا الشأن، استطراداً، هي الغالبية التي تمثلها قوى 14 آذار».
بذلك أقفل رئيس المجلس الدائرة حول السجال في هذا الموضوع، ولكن من غير أن يُقلّل من الإمكانات المتاحة لنجاح طاولة التشاور الاثنين المقبل، اعتقاداً منه بأن أياً من الأفرقاء المدعوين اليها ليس في وارد تعطيل أي فرصة للحوار والتفاهم، ولأنهم سلّموا بجدول أعمال يفتح بدوره آفاق الخوض في أفكار أخرى تتصل بالبندين الرئيسيين أو تتشعّب منهما، ولا تكون بعيدة عمّا يرغب فريق 14 آذار في طرحه. والواقع أن جدول أعمال طاولة التشاور هو نفسه جدول الأعمال الذي وضعه نصر الله في خطاب «يوم النصر» في 22 أيلول الماضي عندما تحدث عن استحقاقَيْ المرحلة التالية.
ويعزّز بري موقفه من طاولة التشاور بالقول إن التحرّك الجديد الذي قاده في الساعات المنصرمة السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجه صبّ في اتجاه تشجيع الأقطاب اللبنانيين على إبقاء خيوط الاتصال والتشاور بينهم قائمة، وهو ما كان قد توخاه خوجه من اجتماعيه في الساعات الـ24 الأخيرة مع نصر الله ثم مع رئيس المجلس. وقد أسرّ السفير لبري أنه بحث مع نصر الله طويلاً في العلاقات التي تربط المملكة بـ«حزب الله»، وخرج مرتاحاً الى ما سمعه منه عن موقف «حزب الله» من الحوار. وبدا مهتماً أيضاً بالاطلاع من رئيس المجلس على نتائج الاتصالات والجهود التي كان قد بذلها أخيراً لإعادة الأفرقاء اللبنانيين جميعاً الى طاولة التشاور.
مغزى ذلك في رأي رئيس المجلس أن المملكة تستمر في «دعم كل جهد لإزالة التشنّج الداخلي في لبنان وحمل الأطراف على التحاور». وهو ما لمسه من زيارته الأخيرة للرياض قبل أسابيع والتي أفضت الى خلاصتين متعارضتين: أولاهما حصوله على تأييد كامل لمساعيه في استمرار الحوار اللبناني عبّرت عنه دعوته الى طاولة التشاور، وثانيتهما إخفاقه في فتح كوّة إيجابية على خط العلاقات السعودية ــ السورية.