جان عزيز
يصرّ بعض أركان «14 آذار» من المسيحيين، على توصيف موقفهم من «التشاور»، على أنه «إحباط لفخ» كان منصوباً لهم. ويعودون سريعاً بالذاكرة الى تعداد «الفخاخ» التي أُعدّت لهم منذ سنة ونصف سنة، وكان حاضراً فيها دوماً نبيه بري.
الفخ الأول، يقولون، كان ربيع 2005، مع الصراع على قانون الانتخابات النيابية. يجزم أحد أركان «14 آذار» بأن المبادرة التي أطلقها آنذاك وليد جنبلاط في اتجاه الطرف الشيعي، كانت مدفوعة بإدراكه خطورة قيام تحالف بين القوى المسيحية والسنية والدرزية، في شكل يؤدي الى عزل الجماعة الشيعية، غير ان هذه المبادرة التي بدأت في اتجاه بري، لم تلبث أن تحولت شرطين صريحين منقولين الى «فريق ثورة الأرز»: الإبقاء على قانون الألفين، والتعهد بعدم إيراد أي ذكر لأحد الأحزاب الشيعية الأساسية في قضية التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإلاّ لا انتخابات نيابية. ويتابع الركن نفسه أن هذه التلبية بالذات شكلت الفخ الأول الذي استمر من قيام «التحالف الرباعي» حتى تأليف حكومة فؤاد السنيورة.
الفخ الثاني، وفق الأركان الأكثريين أنفسهم، بدأت حياكته بعد 14 شباط 2006. فعلى إثر تظاهرة الذكرى الأولى لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفي ظل زخمها الشعبي، وفي شكل متزامن مع دعم دولي واضح، وخصوصاً في ظل تحوّل كان الأول من نوعه في موقف بكركي من الموضوع الرئاسي، تمثّل في موافقة صريحة سلّمها سيد الصرح الى ثلاثة من «فريق 14 آذار»، تتضمن القبول بتنحية إميل لحود وعدم الاعتراض على التظاهر السلمي لتحقيق ذلك... في تلك اللحظة بالذات خرج نبيه بري بفخّه الثاني، عبر الدعوة الى الحوار في 2 آذار الماضي، وعبر التلويح باستعداده السير خلف البطريرك في الموضوع الرئاسي، وعبر إدراجه بند الرئاسة في جدول أعمال الحوار، مردّداً كلام صاحب الغبطة من أن الذي انتظر سنوات يمكنه الانتظار أياماً.
ليتبين لاحقاً أن المسألة لم تكن غير فخ هدف الى امتصاص زخم 14 شباط وتقطيع الوقت لإمرار التحولات، حتى اذا بكى فؤاد السنيورة في القمة العربية، خرج بري جالداً رئيس الحكومة، وعائداً الى ما يشبه رئيس لقاء عين التينة الشهير.
الفخ الثالث أكثر قرباً في الزمن، وهو يعود الى الايام الاولى من حرب 12 تموز الماضي. ويقول الأركان الآذاريون أنفسهم: لنعد الى المواقف الإعلامية لبري وفريقه في الاسبوع الاول من الحرب، وسنجد انها كانت رمادية بالكامل، لا بل تضمر مسافة واضحة حيال موقف «حزب الله». وفيما كان بعض العارفين من فريق الأكثرية يحذر من هذه «المناورة»، مؤكداً كونها «توزيع أدوار»، انزلق آذاريون آخرون في متاهتها، وراحوا يسبغون على بري صفات تقارب القداسة والتبريك، في محاولة واهمة منهم لفك رئيس «أمل» عن «حزب الله»، فيما كانوا فعلاً يُستدرجون بالتقسيط الى الفخ الرابع الراهن.
ما هي حيثيات الفخ الحالي؟ يجيب الأركان الأكثريون أنفسهم بأنها أكثر من أن تُحصى، وتراوح بين محاولة تفسيخ «14 آذار» على قاعدة الفرز بين مسترئس وغير مسترئس، وبين إسقاط أجندة الأكثرية محلياً ودولياً لمصلحة أجندة خصومها. ولذلك يخلص هؤلاء الى الجزم بأن تأجيل «التشاور» ليس إلا إحباطاً للفخ الرابع، وهو يقتضي تنبّهاً دائماً لما سيليه.
ما هو مقدار الصحة في هذه القراءة؟ معارضون مسيحيون، و«رفاق» سابقون للأركان الأكثريين أنفسهم وعارفون بكل الأسرار والخفايا المشتركة، يؤكدون ان التسلسل الزمني الوارد في تلك القراءة، هو الصحيح الوحيد فيها، أما الوقائع والأدوار والمسؤوليات فمغلوطة كلياً.
ويشرح المعارضون في المقابل ان أداء الفريق الشيعي منذ سنة ونصف سنة حتى اليوم، كان مفهوماً ومتوقعاً، وإن لم يكن مقبولاً من أطراف «انتفاضة الاستقلال». لكن ما لم يكن مفهوماً ولا مقبولاً هو أداء أحد الأركان الأساسيين في تلك الانتفاضة، والمقصود طبعاً وليد جنبلاط.
وبالتالي إعادة النظر لتصحيح المسار والهدف يجب ألا تتذرع بموقف الخصم وألا تخلص الى مطالبته بالاستسلام، بل يجب أن تتسلح بالنقد الذاتي وتنتهي الى فرض الانضباط على الحليف.
ويفنّد المعارضون أنفسهم مقولات رفاقهم السابقين بالتذكير بأن ذهاب جنبلاط نحو الشيعة في آذار 2005 لم يكن بدافع حرصه على «وحدة وطنية» مزعومة، بل نتيجة رفض بكركي لطرحه الرئاسي آنذاك، الذي بات معروفاً بتفاصيله. وهذه حقيقة باتت معلومة من الجميع بدقائقها. وإن قيام حكومة السنيورة بهذين الشكل والمضمون لم يكن إلا نتيجة القراءة التي خلص إليها جنبلاط في آب الماضي، بضرورة الوقوف مع سوريا، «أياً يكن من يحكم سوريا»، في مواجهة الهجمة الاميركية عليها. ويتابع المعارضون أنفسهم ان ما يسمى الفخ الثالث في تموز الماضي لم يكن إلا من نسج جنبلاط نفسه، في شقّي غزله «المبارك» حيال بري، وعدائه الاستفزازي حيال «حزب الله»، تحت عنوان «لمن سيهدي النصر؟»، وذلك قبل ان يكون نصر ولا من ينتصرون. هذا اذا لم نتذكر «غدرات» جنبلاط السابقة بحلفائه المسيحيين تحديداً، والتالية لمصالحة الجبل خصوصاً.
... لا يكتم أحد أركان «14 آذار» اقتناعه العميق، تعقيباً، بأن جنبلاط لا يزال حتى اللحظة يحلم بإعادة إحياء «التحالف الرباعي»، ولكنه يكتفي بالتساؤل: كيف نحول دون نجاحه في ذلك؟
هل نفلح في احتضانه وتشجيعه على مخاصمة «حزب الله»؟ أم في رفضه وإقناعه بأن المسيحيين سيكونون خصوماً له، أياً كان موقفه، وبالتالي دفعه مجدداً الى حلمه «الرباعي»؟
جميلة مروحة الخيارات المسيحية، وأجمل ما فيها اللاخيار.