يخون السؤال نفسه، عندما تطرحه على معلّم الأجيال في بنت جبيل المربّي محمد علي شرارة (مواليد 1926): هل فعلاً صمدت في بنت جبيل؟
كامل جابر

من بيته المطلّ على الساحة، عايش تفاصيل التدمير المنهجي وصولاً إلى وقف إطلاق النار. فهو لم يترك مدينته في أي عدوان، فهل يغير مجرى ذاكرته هذه المرة؟
يروي الأستاذ محمد حكايته مع الصمود في بنت جبيل: «ظلّ القصف متواصلاً من الرابعة بعد الظهر حتى الرابعة فجر الاثنين. كان ينزل في الثانية الواحدة نحو أربعة صواريخ أو قذيفة، في 12 ساعة سقط على بنت جبيل ما لا يقل عن ستة آلاف قذيفة وصاروخ، الحمد لله أننا بقينا أحياء. «ليك يا صاحبي»، لم نرغب في الأكل والشرب، بقيت نحو 40 يوماً من غير أكل أو نوم أو شرب حتى انهرت أخيراً، فقدت قدرتي على الخروج إلى باب الدار. بعد 15 يوماً من بداية الحرب، أتت شظية قذيفة في خزان المياه، «راحوا الميات»، لكن عندي خزان مياه خارج الدار، كانت البنت تخرج، تملأ رشاشتين وتدخلهما، نفصل قسماً لمياه الشرب والباقي لاستخدام الحمام. مرات كنا نخرج تحت القصف لتأمين المياه. ما كنا نحتفظ به من خبز، بقينا نأكله حتى 15 يوماً، وما كنا نخزنه بالبراد كله تلف. تحضر البنت طبخة في كل يوم نأكلها بالملعقة، وصباحاً نمسح العفن عن الخبز لنأكل لقمة أو اثنتين، وعندما يشتد القصف، أتضرع إلى الله وأقول يا ربي لا تمتني ميتة شنيعة تحت الردم، ربما بحسنة زوجتي المريضة بقينا أحياء. من عاد ورأى القذيفة التي أصابت المنزل وما سقط في محيطه من قذائف دمرت بيوت الجيران، ولم يبق زجاج في البيت... يستغرب كيف بقينا أحياء».
ويردف: «عندما حاولوا التقدم نحو بنت جبيل وردّهم الشباب قرب المدرسة المهنية، بدأوا من الصباح بقصف الساحة وراحوا يقصفون البيوت، بيتاً بيتاً، وبدأت تحترق السيارات. القذيفة تسقط قبالتنا وشظاياها تعود إلينا. أما أصوات صواريخ الغارات فحدّث ولا حرج، فوجئت بعد الهدنة بأن البلدة كانت شبه خالية، حتى صهري السيد علي الحكيم، علمت لاحقاً أن الردم نزل عليه في بيته، ولذلك خرج من المدينة. ما حصل لبنت جبيل يحتاج إلى سنوات حتى تستعيد عافيتها منه، لم أر بنت جبيل في حياتي على نحو ما حصل لها هذه المرة. عندما أراني ابني صور الدمار، صعقت، كل البيوت العتيقة، العقود والحجر والقناطر الجميلة والرائعة، التي تحمل أجمل نفحات الذكريات، حتى منزل المرحوم والدي قرب الساحة، تحولت كلها أشلاء وركاماً».
بعض اخبار بنت جبيل كان يسمعها الأستاذ محمد من الراديو «أما الانارة فكانت بالشموع، وجدت بعضها من عام 1978، أيام الاجتياح، والطعام من المؤونة التي نخزنها عادة في بيوتنا».
يُحفظ لأبي جمال، الكنية المحببة إلى قلب محمد علي شرارة، وأفئدة أترابه وأحبابه، أنه أوجد المدرسة في مارون الراس، بل أطلق شرارة الثقافة فيها. أتى إليها وهو ملمّ بها، تقيّد أهلها جملة من العادات والتقاليد التي حرمت أبناءها الأوائل الدراسة والمعرفة، بل تعدى الأمر إلى أن يكون معظمهم (ألف ومئتا نسمة) غير مدونين في سجلات النفوس، فالأموات كانوا أحياءً، والأحياء ظلّوا مكتومين. وتمكن في العام الدراسي الأول، 1950 ــ 1951، من تسجيل 93 تلميذاً، ثلاثة منهم يحملون الهويات اللبنانية، والباقون، أوراق مختار. وبعد جهد تم تثبيت هوياتهم، ثم واظب «حفيد الشيخ» على تلقينهم، في دوام كامل، على دفعتين، «واحدة قبل الظهر وأخرى بعده، وفي أيام العطل، والجمعة والأحد، من دون علم الدولة ومن غير طاولات».
وفي العام التالي أرسل فريقاً من الأهالي فأحضروا 12طاولة من حديد وخشب "قطراني"، من مدرسة في "صالحة" للإنكليز، وفريقاً آخر إلى رأس الأحمر في الجليل قرب صفد، فأحضر 12طاولة أخرى، وتم شراء طاولات لخمسة تلاميذ. وظل يعلم في المدرسة التي أسس، قرابة عشر سنين حتى زاره المفتش التربوي إيلي خياط واقترح نقله إلى المدرسة الرسمية العالية للصبيان (عبد اللطيف سعد حالياً) في بنت جبيل، وكانت موزعة في مطارح عديدة. ثم نُقل بعد سنة (1962) إلى مدرسة البنات الرسمية بغية تأسيس الفرع المتوسط فيها مع نخبة من المعلمين الذين تمكنوا في أقل من خمس سنوات، إلى جانب مديرتها سكنة شرارة، من إيصال عدد التلميذات فيها إلى 635تلميذة، وكان أبو جمال ناظرهم العام. وتقدمت منهن 46 تلميذة إلى الشهادة المتوسطة في العام 1967، ونجحن جميعهن.