فراس زبيب
عاد اهل الجنوب الى الحياة كمن يعود الى الضحك بعد مرور وقت على موت احد افراد عائلته.
عادت الحاجة فاطمة الى الجلوس على عتبة دكانها كل يوم، ملقية التحية نفسها على كل السيارات التي تمرّ من امامها، وداعية من فيها، بحركة من يدها، الى النزول لشرب كوب من الشاي. وعلي، الشاب الذي كان قد طلب يد زينة من اهلها قبل الحرب، عاد الى الـ«مفاوضات» معهم، وإلى الزيارات التي كانت متوقفة طيلة ايام الحرب الاخيرة.
طالب، الذي هرب معظم اهل القرية من تصرفاته خلال الحرب، عاد الى الجلوس في محله كل يوم، كما عاد يبدو عليه الضجر اكثر من اي شيء آخر. هو الذي موّه نفسه بأغصان قطعها من الاشجار في حديقته، وحمل سلاحاً كبيراً، وصار يتنزه هكذا في القرية، بزي المحارب، بينما كانت طائرات الاستطلاع الاسرائيلية تصور الجنوب وترصد فيه اي علامات عدائية.
لم يسمع طالب من اهل قريته الذين طلبوا منه ان يوقف نزهاته المموهة والمسلحة في ارجاء القرية التي لم تكن قد قصفت بعد. ظلّ يستيقظ كل يوم ويمضي نهاره متجولاً امام عدسة الاسرائيليين، حتى جاء احد المسؤولين في الحزب الذي ينتمي اليه، وطلب منه أن يوقف مهزلته. ذلك ان طالب ليس مقاتلاً، ولا مقاوماً، في حزب الله، ولم يطلب منه احد أن يحمل السلاح ليحمي القرية.
حين غضب طالب على اهل قريته، اخذ سيارته المرسيدس، التي كان قد موّهها بغصن شجرة وضعه على سطحها، وركنها على مدخل القرية، ورمى عليها «غالونين» من البنزين وأحرقها. ظلّت سيارته تحترق لساعات، وجاء الليل والنار تشتعل فيها.
لم تكن القرية قد قصفت بعد، لكن معظم اهلها هجروها بعد افعال طالب. خافوا من تصرفاته اكثر مما خافوا من القصف الاسرائيلي. وهو اليوم، عاد ليصبح مدنياً، يجلس في دكانه ضجراً، حزيناً، وحيداً.
طالب لا يزال حديث اهل القرية الدائم. يتساءلون عن سبب تصرفه، فهو، كما يقولون، لطالما كان شاباً بسيطاً وهادئاً. كأنه، في الحرب، كان شخصاً آخر، وهو اليوم عاد الى طبيعته.
في تعاونية بلدة الدوير، الموظفون منهمكون بتعبئة الرفوف بالبضاعة الجديدة. كانت التعاونية قد فرغت من كل بضاعتها خلال ايام الحرب، فصاحبها اصر، في تلك الفترة، على ان يفتح ابواب محله كل يوم لمدة ساعة او ساعتين، وذلك رغم القصف الاسرائيلي على المنطقة.
اهل بلدتي الدوير والشرقية افرغوا التعاونية، خلال الحرب، من كل ما فيها. وهي اليوم تذكّر من يدخل اليها ويرى الفراغ الذي في داخلها، بالحرب وقسوتها.
يستحضر المرء في مخيلته، حين يدخل الى التعاونية، مشهد الناس وهم يفرغونها من بضاعتها. فهم لم يأخذوا الاشياء الضرورية فقط، بل اخذوا كل شيء. وحدها رفوف الأدوات الكهربائية بقيت ملأى بأغراضها. يفكر المرء كيف انهم، حين لم يعد في التعاونية خبز، اخذوا بدل الخبز بسكويتاً او قوالب حلوى. وحين لم يعد في المحل مياه، صاروا يشترون العصير والمشروبات الغازية... وحلويات بدل الموالح، وأجباناً بدل اللحوم...
راغب، الكهربائي الذي ترك قريته منذ يوم العدوان الرابع، عاد اليوم الى بلدته لتنهمر عليه طلبات العمل في البيوت المتضررة. كذلك الامر بالنسبة لجهاد، دهّان الموبيليا. والعمال السوريين الذين تركوا الجنوب خلال الحرب، عادوا اليوم اليه موعودين بسوق للعمل في البناء افضل من تلك التي نزحوا منها قبل شهرين.
عادت الحياة الى الجنوب. المحال فتحت ابوابها، والناس خرجوا من بيوتهم الى الطرقات. كأن شيئاً لم يتغير، تجلس الحاجة فاطمة امام دكانها طالبة من المارة أن يجلسوا معها لتروي لهم قصص حياتها، والمنازل التي دمرها القصف الاسرائيلي رُفعت انقاضها، ولم يعد مكانها يذكّر بالبيوت التي كانت موجودة فيه، ولا بالدمار الذي حل بها.