جوزف سماحة
الحشد كبير. الخطاب متوقّع. حشد يتوّج المعركة التي خيضت ويؤكد أن الحاضرين يرون أن انتصاراً تحقق. خطاب يُجمِل ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أثناء الحرب وبعدها ويضعه في سياق أوضح.
يفترض بأي «خطاب نصر» أن يكون ختامياً. إلاّ أنه كان واضحاً أن ما استمعنا إليه هو خطاب نصر في معركة. أما الحرب، بمعناها الواسع، فمفتوحة. ومن أدوات هذه الحرب التنازع على كون ما حصل نصراً أم لا. إنه خطاب عند محطة مفصلية لأن احتمال الخسارة وارد ولأن الطرف الآخر، في هذه الحرب، لم يلق أسلحته السياسية (الداخلية والخارجية)، ولا أسلحته النارية، ولا محاولاته سرقة النتيجة عبر دفع التدويل نحو أهداف لا ينصّ عليها القرار 1701.
يفتتح هذا الخطاب مرحلة ما بعد الانتصار القلق. والانتصار قلق، تحديداً، لأنه مقلق لإسرائيل والولايات المتحدة ولـ«الواقعيين» العرب، وللبنانيين يتصرفون كمَن يفضّل الخسارة مع إيهود أولمرت على الانتصار مع نصر الله لأنهم يظنّون أن الحالة الأولى تعطيهم السلطة كلها في حين تطالبهم الحالة الثانية بتقاسم وطني للسلطة.
بدا نصر الله، أمس، عاتباً على بعض مواطنيه. كان يود لو أنهم كانوا، تماماً، في موقع الشراكة لكي يجنّب نفسه، في مناسبة من هذا النوع، طرح جدول أعمال داخلياً. إلاّ أن الأمر ليس كذلك. ولذا بدا الخطاب في شقّه الإقليمي كما في شقه اللبناني أقرب إلى البرنامج السياسي للمرحلة المقبلة.
التأكيد أن الخطاب متوقع لا يقلّل من أهميته. لقد أعاد نصر الله تعريف العدوان وأهدافه محدّداً معنى الانتصار. شرح تقديراته للأبعاد الإسرائيلية والعربية والدولية لما جرى. أشار إلى الانقسام السياسي الداخلي في لبنان. دعا إلى حكومة وحدة وطنية وقانون انتخابي عادل. أعرب عن إصراره على بناء الدولة القوية والعادلة والنظيفة معتبراً أن هذا هو الشرط للبحث في موضوع السلاح، مستطرداً أنه لا يراه أبدياً. ألمح إلى استعادة جهوزية المقاومة. أشاد بالجيش اللبناني ووضع ضوابط لعمل القوة الدولية طالباً من السلطة أن تقوم بواجباتها في حماية الوطن والمواطنين.
رُبّ قائل إنه لا جديد في ما تقدم. هذا صحيح إذا عدنا أسبوعين أو شهرين إلى الوراء. لكنه غير صحيح إطلاقاً إذا عدنا أكثر. ثمة حرب حصلت. وواقع دولي وعربي انكشف. ووضع داخلي اهتزّ. وقوة دولية «معززة» لدينا. وثمة جيش في الجنوب. وأهداف سياسية ووطنية باتت مطروحة للبحث والإنجاز. وتحوّل في التحالفات واشتراطات للاستمرار في ما سبق منها. ثمة انقسام على الموقف من الحرب يقود إلى استنتاجات متباينة... باختصار إن عناصر الجديد في الوضع الناشئ عديدة ومهمة ولو أن استيعابها لم يكتمل وارتداداتها لم تحصل تماماً.
الوضع مختلف. وللوضع المختلف خطاب مختلف. الخطاب، بهذا المعنى، حدث سياسي من الدرجة الأولى.
يبقى أن ظهور نصر الله لإلقاء كلمته هو الحدث الذي خطف الأبصار. فالرجل يعامل، منذ 12 تموز، كأنه غادر البلاد ليخوض، بعيداً، معركة الدفاع عنها. لذلك عومل، بالأمس، معاملة العائد ومعاملة من يكفي ظهوره لتأكيد انتصاره. ولا بأس في القول هنا، إن الأمين العام لحزب الله استفاد، مرة ثانية، من الركاكة الاستثنائية التي يبديها القادة الإسرائيليون. لقد وضعوا أهدافاً عالية لحربهم، فلما فشلوا في تحقيقها عظّموا من قدر الخسارة التي لحقت بهم. وسعوا، في الأيام الأخيرة للقتال. وبعدها، إلى الحصول ولو على صورة رمزية توحي أنهم حققوا شيئاً فارتدّ عليهم الأمر بأن الصورة كانت تلك التي حذّر منها أحد المعلقين الإسرائيليين: نصر الله خارجاً من الملجأ ينفض الغبار عن عباءته ويهتف بأنه انتصر (زد على ذلك صورة أعلام الحزب عند الحدود ورشق الدورية الإسرائيلية بالحجارة). وبلغ الابتذال بإيهود أولمرت حدّ المفاخرة بأنه يتجوّل بحرية في حين أن خصمه مختبئ، وهو أمر أضاف إليه مسؤول سابق توقعه بأن نصر الله تحوّل إلى «تسجيل صوتي».
بكلام آخر تدهورت «الطموحات» الإسرائيلية إلى حدّ أن مجرّد الظهور في مهرجان خطابي يحوّله، حتماً إلى مهرجان انتصار ويضع اللمسة الأخيرة على سجال يتناول الربح والخسارة. وهكذا لم يكن إقدام نصر الله على إلقاء كلمته حدثاً عادياً. لم يكن ظهوره أمام الكاميرا والجمهور من يوميات الحياة. لقد تحوّل إلى حجة سياسية لا رادّ لها.
لم يكن غريباً، والمسألة هذه، أن يستمرّ التوتّر حتّى اللحظة الأخيرة، وأن يتهاوى القادة الإسرائيليون إلى حدّ الرهان على «الغموض البنّاء» لما ينوون فعله. لقد لعبوا، مرة أخرى، ضد أنفسهم.
ولكن يبقى أن إقدام نصر الله على الخطابة مباشرة لا يدلّ على شجاعة جدية وطمأنينة روحية فحسب، وإنما، أيضاً، على نوع من الالتزام الأخلاقي حيال شهداء سقطوا، ومواطنين لبّوا الدعوة. لقد كان الأمين العام لحزب الله مطالباً بأن يكون «المواطن حسن» إلى أبعد حدّ من أجل أن يثبت جدارته بموقعه القيادي ومن أجل أن يعطي لتلك العبارة الشهيرة «فدا السيد والمقاومة» معناها الفعلي.
الحدث الثالث بعد الخطاب و«الظهور» هو الحشد. علينا أن نتذكّر القصف والمجازر والشهداء والجرحى والأنقاض والنازحين ومستقبلي النازحين... علينا أن نتذكّر ذلك كله إذ نشاهد الخارجين من تحت الحطام، الحاملين صور شهدائهم، الفخورين بأعلامهم وراياتهم. لقد اكتشفنا أمس تلك الروح الجامعة التي حالت صور الحرب دون أن نراها تماماً. تحوّل الجمع المتناثر والمتلقّي لهول الصدمة إلى كتلة شعبية هادرة وفخورة ومزهوّة وداخلة، طوعاً، في علاقة وجدانية شديدة التشابك مع قائد هو في الوقت نفسه ابنها وأخوها ووالدها وصديقها وقطعة صميمة من ضميرها وكرامتها.
كان الحشد كبيراً. لا ضرورة للتعداد. لا ضرورة للتعداد لأنّ الذي وجّه الدعوة يملك فضيلة التواضع وهو لا يطمح إلى أكثر من تنبيه الغائبين، بواسطة الحاضرين، إلى أن البلد منقسم. إنه مهتمّ، طبعاً، بالرد على مزاعم التراجع والانهيار. لكنه مهتمّ، أكثر، بتوظيف المنشقّين في خدمة أطروحته عن أن الانقسام سياسي جوهرياً ولو تلبّس لبوساً آخر.
وظيفة الحشد، إذاً، التأكيد على الانقسام أولاً، وعلى خطورته ثانياً، وعلى ضرورة تجاوزه بالوحدة الوطنية ثالثاً. إلاّ أن التقدير الغالب هو أن هذه المحاولة لن تلقى الصدى المطلوب. يمكن، منذ الآن، استباق كل ما سوف يُقال تبهيتاً للحدث ومعناه.
إن «الأكثرية» التي كانت في وادٍ آخر ستبقى في وادٍ آخر. لن تلتقط فرصة إثبات أنها حرة في قرارها. لن تهتم بأن تقدّم لجمهورها خطاباً عقلانياً. ستستمرّ في معاملة هذا الجمهور كأنه لا يضمّ مواطناً يحمل صفات «المواطن حسن».