جوزف سماحة
الاحتفال بـ«شهداء القوات اللبنانية» أمس يحمل دليلاً إضافياً على انعدام التوازن الذي يعيشه لبنان هذه الأيام.
كان المهرجان، بمعنى ما، يوماً للانتصار. إنه الانتصار الذي يحسم في الأرجحية الأيديولوجية لـ«القوات» ضمن فريق الأكثرية النيابية والحكومية. تتجاوز هذه الأرجحية غلبة فكرة معيّنة عن لبنان وموقعه الإقليمي لتطال قضايا مهمة ذات صلة بالنظام الاقتصادي ــ الاجتماعي المرغوب، وهو نظام يمكن أن نجد له أصولاً فكرية في بيئة «القوات» أكثر من بيئة حلفاء «القوات».
إنه يوم النصر الأيديولوجي. تبقى هذه الملاحظة صحيحة حتى لو حضر قواتيون مهرجاناً لشهداء حزب حليف لهم اليوم كان خصماً لهم بالأمس (الحزب «الاشتراكي» مثلاً). ففي الحالة الثانية، الافتراضية، كما في الحالة الأولى الواقعية، الخطاب المهيمن خطاب قواتي. لقد بات الفريق السياسي اللبناني المعروف بـ«14 آذار» يملك أو يتبنى رواية لما جرى في العقود الثلاثة الأخيرة أقرب، بما لا يقاس، إلى الرواية التي يمكن سمير جعجع أن يسردها ويعتبرها من حقوقه المحفوظة.
القوى المتحالفة مع «القوات» قامت بمراجعة للماضي القريب، واعترفت بأخطاء استراتيجية وتكتيكية مؤداها أن الالتحاق بالفلسطينيين ثم بالسوريين هو سبب الخراب اللبناني. واستنتجت من ذلك أنها لن تسمح للمقاومين الإسلاميين بجرّ لبنان إلى انخراط محوري في صراعات المنطقة. وبناءً على هذه المراجعة تعترف هذه القوى بأن «المقاومة اللبنانية»، أي المسيحية، هي الركيزة وهي الصخرة التي أدّى صمودها وقتالها إلى الاستقلال الحالي وإلى ما يسمّى «ثورة الأرز». هذا انقلاب فكري وثقافي هائل الأهمية في لبنان يجد تعبيراً عنه في نتاجات إعلامية وسياسية ذات دلالة. ولا يقلل أهمية هذا الانقلاب استمرار أطراف في الأكثرية، من غير «القوات»، في ادعاء النسب البعيد إلى العروبة وقضايا المنطقة ونضالاتها.
عندما تحدث جعجع في مهرجان أمس كان يعبّر بوضوح عن شعوره بأنه بات في موقع الأرجحية الأيديولوجية حيال بعض الحضور. كان سعيداً بهذا التعويض المعنوي. كان يدرك أن بين الحاضرين اعتذاريين أيديولوجيين لـ«القوات» وسياستها و«مقاومتها». أكثر من ذلك، كان منتبهاً، على الأرجح، إلى أنهم اعتذاريون من الدرجة الأولى لأنهم قدموا لإحياء ذكرى شهداء تحاربوا معهم فقتلوا منهم من قتلوا أو ماتوا على أيديهم. لقد قدموا إلى حريصا باسم مصالحة ثبت لاحقاً أنها عقدت فوق القاعدة الأيديولوجية التي بنتها «القوات اللبنانية».
يمكن «الحكيم» أن يكون قد كتم فرحته بعض الشيء، إلاّ أنه كتم، أيضاً، غصّته. فالاعتذاريون، في حضرته، اعتذاريون من نوع خاص جداً. من نوع فريد. يقرون له بالانتصار الأيديولوجي لكنهم يطالبونه، عملياً، بالالتحاق السياسي، أي بأن يبقى الشقيق الأصغر في التحالف الحاكم.

¶ ¶ ¶
لقد كان مهرجان «القوات» أمام مأزق لا مهرب منه سواء كان ناجحاً لناحية الحشد الشعبي أو فاشلاً.
لنفترض، جدلاً، أن المهرجان حقق النجاح الذي رأته فيه «مؤسسة القوات اللبنانية للإرسال». نجاح باهر. انقلاب كامل في المزاج الشعبي. حسم في أن جعجع هو «المسيحي الأول» (ولو تحت عباءة بكركي وسيدها). يعني ذلك أن ما يُقال عن انفضاض من حول «التيار الوطني الحر» صحيح، وأن التطورات الأخيرة، منذ 12 تموز، ألغت النتائج المسيحية للانتخابات، وأن أكثرية ساحقة بين المسيحيين باتت تفضّل «الخيار القواتي» على «الخيار العوني». لنفترض، أيضاً، أن لسان حال «القوات» هو «لقد صبرنا وظفرنا وتأكد لجمهورنا وشعبنا أننا نقود في الاتجاه الصحيح». لنفترض ذلك، فإن الترجمة العملية الوحيدة لذلك هي إعادة صياغة التوازن ضمن الأكثرية الحاكمة، وضمن المؤسسات، بشكل لا علاقة له بما هو قائم الآن. أيعقل، والحالة هذه، أن تتمثل هذه القوة الجماهيرية بوزير واحد مثلاً، فيما أكثرية الوزراء المسيحيين تنتمي، سياسياً، إلى الحليفين الآخرين في «14 آذار»؟ الاستنتاج المنطقي من أي نجاح باهر للاحتفال هو توزيع أكثر عدلاً للسلطة ضمن الفريق الحاكم. وهو إدخال قدر أكبر من التوازن يلغي «شبح» المصادرة، ويلغي التهمة القائلة بأن وظيفة التمثيل المسيحي هي تأمين نصاب سياسي لسلطة لا تقبل نواتها الصلبة أي تقاسم جدي للنفوذ والمشاركة في تقرير المصير الوطني. نجاح المهرجان يقود إلى ضرورة قيام حكومة «وحدة وطنية» مع «القوات».
يمكننا، الآن، أن ننتقل إلى الفرضية الثانية.
لنفترض، جدلاً، أن مهرجان «شهداء القوات» فشل في تأمين حشد شعبي، وبدا أننا أمام تنظيم أو حزب ولسنا أمام حالة جماهيرية. يعني ذلك، عملياً، أن «التيار الوطني الحر» (حتى لو صح التراجع في مدى نفوذه) ما زال يمثّل مزاج الأكثرية المسيحية أو، على الأقل، مزاج أكبر أقلية مسيحية. يقود ذلك إلى الاستنتاج أن التطورات الأخيرة لم تُحدث في هذه البيئة انتقالاً من ضفة إلى ضفة. ويعني ذلك، أيضاً، أن «القوات» عجزت عن استثمار ما يُقال إنه تراجع «عوني» وأن هناك، في البيئة المسيحية، ثقلاً شعبياً يحتج على النهج الالتحاقي لجعجع.
تقود هذه الفرضية حكماً إلى المطالبة بتعديل وزاري جدي، لأنه في بلد مثل لبنان، ليس مستحباً حرمان أكثرية طائفية وعزلها، وخاصة في ظل التحديات الراهنة وفي ظل تفاهم هذه الأكثرية مع أكثرية طائفية أخرى.
التعديل المطلوب، في حال نجاح المهرجان، هو تعديل ضمن الفريق الحاكم. التعديل المطلوب، في حال فشل المهرجان، هو تعديل للتوازن الوطني العام. الأول أسهل بما لا يقاس. الثاني أصعب. الأول تقني أو شبه تقني من حيث المبدأ. الثاني عملية سياسية.
يقود ما تقدم إلى الزعم أن جعجع كان مطالباً أمس بأن يلح على حكومة «الوحدة الوطنية»، على حكومة «التوازن»، سواء مع «القوات» أو مع «التيار الوطني الحر». لم يفعل. لم يستطع تجاوز «المأزق الأصلي» للمهرجان. اكتفى من الغنيمة بـ«الانتصار الأيديولوجي» بما يجعله شريكاً نموذجياً لتحالف حاكم يعطي الأولوية المطلقة للعبة السلطة ويبدي استعداداً، في سبيل ذلك، لكل أنواع الهزائم المبدئية!
يبدو أن «الحكيم» يفضّل أن يكون، ضمن الأكثرية، في موقع «الهامشي المصيب». خيار لا يخلو من مازوشية. لا يخلو من وجود بقية لعقلية السجين. ولكن كان عليه، في هذه الحالة، ألاّ يخاطب حسن نصر الله من موقع الممسك بالسلطة. فالأمين العام لـ«حزب الله» ركّز في خطابه على «المأزق الوطني» وفي ذهنه، على الأرجح، أن معاملة أكثرية الأكثرية لأقليتها، وللأكثرية في طوائف أخرى، هي من تجليات هذا المأزق.