جوزف سماحة
تتردّد أنباء، لم تتأكد بعد، عن أن «النظام العربي الرسمي» حزم أمره وتوجّه إلى نيويورك. وتمضي الشائعات قائلة إنه في يوم ما من أيام الأسبوع الماضي استمع أعضاء مجلس الأمن إلى «الظلامة» العربية.
لم تتأكد هذه الأنباء، ببساطة، لأن أحداً لم يعر أيَّ اهتمام هذه «الخطوة الاستراتيجية» التي توازي أهدافها الكبرى ضآلة حجم القائمين بها. وبما أننا في عالم السياسة فقد أمكن ضآلة الحجم أن تبتلع الأهداف الكبرى.
أصدر وزراء الخارجية العرب، قبل أسابيع، حكماً يقضي بالاعتراف بوفاة عملية التسوية في المنطقة. وعقدوا العزم على دعوة مجلس الأمن إلى وضع يده على الصراع العربي ــ الإسرائيلي. حدّدوا موعداً لذلك. وكانوا حاضرين يوم الموعد وفي ذهنهم أنهم سيعرضون على العالم صفقة لا يمكنه رفضها: تسوية شاملة في الشرق الأوسط في موعد أقصاه نهاية 2007. أرفقوا ذلك بكلام عن آليات، ومرجعيات، ومؤتمرات، ومفاوضات، وقرارات، وتدابير... وما إلى ذلك من لزوميات العمل الدبلوماسي الذي يوحي بقدر من الجدية.
مرّت الأيام. وهناك من تحدث عن «وقائع بهدلة معلنة» محذّراً من أن هذه المبادرة تفتقر إلى الحد الأدنى من العناصر التي توجب على الآخرين التعاطي معها باهتمام. إلاّ أن أركان النظام العربي تصرفوا وكأنهم على موعد مع التاريخ وأن تحصيل الحقوق، في عالم المصالح المتضاربة، شبيه بتحصيل الريع النفطي: لا لزوم لأي جهد!
وكان ما كان. كان أن حلّ اليوم الموعود. وصلت الوفود. تحدّث أعضاؤها. تثاءب الحاضرون. انتهت الاجتماعات. وبالكاد وصلت إلى المسامع أخبار هذا اللاحدث بعدما قيل لنا إن النهاية السعيدة لإحدى أشدّ المواجهات ضراوة وعمراً تقترب. لم يستحقّ الخبر أكثر من أسطر معدودة في بعض الصحف. كان يمكن أن يُنشر النبأ في باب الطرائف: هناك من يطالب بحل أزمة الشرق الأوسط. وهناك، في المقابل، من يطالب بحل أزمة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط المختطف في غزة، هل يمكن تخيّل حوار من هذا النوع؟ هل يمكن تخيّل تفاوت بهذا الحجم؟ اصطدم الوهم الكبير بالواقع، فكانت النتيجة وعداً مبهماً بأن إيهود أولمرت قد يوافق على الاجتماع بمحمود عباس وأن الاجتماع قد يسفر عن فتح الطريق بين قريتين فلسطينيتين تحت الاحتلال.
لم ينجح «النظام العربي الرسمي» في انتزاع أي شيء. حتى إنه لم ينجح في استثارة توتّر أميركي أو غضب يعبّر عنه مسؤول في الإدارة. اكتفت الولايات المتحدة بالإعلان عبر ناطق رسمي أنها غير موافقة، فكان ذلك وحده كافياً للقضاء على مبادرة يفترض أنها البديل المقترح لمسارات تفاوضية وصلت إلى الطريق المسدود. وأطلق المندوب الإسرائيلي إلى مجلس الأمن دان غيلرمان رصاصة الرحمة على مبادرة أطلقت باسم مئات الملايين من العرب. اعتبرها «غير مفيدة» فكان أن اعتبرها أصحابها «غير موجودة».
تدلّ هذه الواقعة المضحكة ــ المبكية على أن في العالم العربي أقليتين متطرفتين. تتألف الأقلية الأولى من قوى عدمية، عبثية، رؤيوية، تضرب على غير هدى. وتتألف الأقلية الثانية من حكّام يمارسون نوعاً من الالتحاق غير معروف، ويتّبعون سياسة تلامس اللاعقلانية الكاملة في مقاربتهم لمشاكل منطقة يمارسون عليها سلطة شبه مطلقة. إن الأصل في المعضلة هو التطرف الثاني، هو هذا الانكشاف المريع، هذه الذيلية التي لا تُحتمل. إن هذا هو التطرف الذي يضرب شعوبنا يومياً ويجعلها، أو يجعل مواطنين منها، يخرجون عن طورهم.
الإرهاب، بهذا المعنى، هو نتيجة الشعور العارم لدينا بفائض العدالة في قضايانا معطوفاً على شعور آخر، عارم أيضاً، بالعجز عن تحصيل أي من الحقوق. إن لم يكن هذا هو الإرهاب تماماً، فإنه، بالتأكيد، السرّ الذي يجعل قطاعات شعبية واسعة مستعدّة لاستقبال إيجابي لأعمال هوجاء ومغالية.
إن التطرف العربي المسؤول عن سوء الأحوال، هو تطرّف النُظم الحاكمة الذي غادر، منذ زمن، القواعد البدائية للعمل السياسي والدبلوماسي، ويناقض، يومياً، ألف باء التفاوض في شأن قضايا المنطقة. وما لا شك فيه أنه يستحيل تحميل الجميع القدر نفسه من المسؤولية. فالعبء الأكبر يقع، قطعاً، على عاتق كل من مصر والمملكة العربية السعودية. هاتان الدولتان معنيتان بالهوان العربي الحالي، والإحباط المتولّد من سياستهما متناسب مع الآمال المعلّقة على قدراتهما.
لقد شهدنا في لبنان، خلال الأيام الماضية، نقاشاً داخلياً تناول التقديرات المتفاوتة للسياسات العربية. هناك من انتقد بقسوة نهج التراخي. وهناك من دافع بحماسة عن سلوك أنظمة بحجة أنها تقدّم دعماً إلى لبنان بعد العدوان الإسرائيلي. فات الطرف الثاني أن سياسة عربية مختلفة هي التي كانت قادرة، وحدها، على جعل العدوان صعباً، وعلى فتح الباب أمام تسوية عادلة تحول دون استفراد الفلسطينيين واللبنانيين.