نقولا ناصيف
في 14 شباط 2006، الذكرى الأولى لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، شَبَكَ رئيس الغالبية النيابية سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع أيديهم، ورفعوها إلى أعلى وسط مئات ألوف من المحتشدين في ساحة الشهداء. لم يكن بينهم الرئيس أمين الجميل الذي غادر مكان الاحتفال، ولا شَبَكَ الأيدي سائر الشركاء من الوزراء والنواب والنواب السابقين. لكن شبك الثلاثة أيديهم، عفوياً كان أو مخططاً له، أبرَزَ في نهاية المطاف تحالفهم لما يمثلون في طوائفهم وأحزابهم.
تدريجاً في الأشهر الأخيرة تبيّن أنهم الشركاء الفعليون في زعامة فريق 14 آذار. يتقاسمون الأدوار بنبرات متباينة في مواجهة فريق من الخصوم: سوريا وحزب الله ورأس حربة العداء لهما جنبلاط، والرئيس إميل لحود والعماد ميشال عون ورأس حربة العداء لهما من داخل الطائفة جعجع. أما الحريري فلزِم باستمرار موقفاً مترجّحاً بين توجيه سهام مسنونة إلى سوريا ولحود، وإبقاء أبواب الحوار مفتوحة مع عون والحزب والحرص على مرجعية الرئيس نبيه بري. لكن الزعماء الثلاثة أدركوا، ولا يزالون، أنه ليس في وسعهم إلا المساواة في خصومتهم هؤلاء جميعاً على أنهم الطرف الآخر من النزاع السياسي القائم منذ اغتيال الحريري. والرجال الثلاثة كانوا السبّاقين إثر اندلاع حرب تموز إلى تحميل حزب الله مسؤوليتها والمطالبة بمحاسبته، والثلاثة أدركوا ولا يزالون أن خسارتهم معركة إسقاط لحود قبل انقضاء ولايته الممددة تضاهيها أهمية حاجتهم إلى استخدام كل أسلحتهم للحؤول دون وصول عون إلى خلافة الرئيس الحالي.
تبعاً لهذا الواقع أتت ردود الفعل المتتالية من جعجع وجنبلاط والحريري، المنسّقة في ما بينهم على ما يبدو، على خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مهرجان الضاحية الجنوبية (22 أيلول)، لتعكس خطورة المواجهة التي تنتظر الوضع الداخلي في الأسابيع المقبلة، وخصوصاً أن رد الحريري، الذي ظلّ يشكل حتى اندلاع حرب 12 تموز الطرف الأكثر فاعلية لاستمرار الحوار مع نصر الله، كان الأكثر عنفاً. وبدا بحسب أوساط واسعة الاطلاع أن حزب الله أظهر اهتماماً بالرسائل السياسية التي انطوى عليها هذا الرد، في إفطار قريطم، متجاهلاً ما أدلى به جعجع وجنبلاط. وتندرج الرسائل السياسية في:
ــ تحميل الحريري الابن حزب الله مسؤولية الحرب الإسرائيلية على لبنان ونتائجها، وتركيزه تحديداً على عودة الاحتلال وزيادة عدد الأسرى والتسبب بمجيء جحافل دولية.
ــ مدّ غطاء سياسي واسع على رئيس الحكومة فؤاد السنيورة واعتباره ممثلاً لكل قوى 14 آذار، ولتيار المستقبل خصوصاً. وجاء هذا الدعم للسنيورة يضع حداً لاتفاق سابق بين الحريري والحزب قضى بتمييز الأخير في معرض توجيهه الانتقاد إلى الحكومة، بين السنيورة والحريري، وتالياً تحييد الحريري من أي سجال يدخل فيه الحزب مع الحكومة. الأمر الذي عنى في خطاب إفطار قريطم مساء الثلاثاء أن المواجهة مع السنيورة أضحت مفتوحة على مواجهة مع رئيس الغالبية الحاكمة والزعامة السنّية التي يقود.
ــ التمسّك بالحكومة الحالية ورفض أي محاولة لإسقاطها، مع معرفته سلفاً بأن لا سبيل الى إسقاطها سياسياً ودستورياً.
والواضح أن ردّ الحريري على نصر الله ــ الأول في سياق علاقة طبعتها حرارة ظاهرة ساهمت في المحافظة على خيوط الاتصال والحوار والتحييد المتبادل ــ ينطلق من الأسباب نفسها التي حملت جعجع وجنبلاط على مهاجمة الأمين العام لحزب الله، ولكن كل على طريقته: الأول يريد تجريد الحزب من غطاء مسيحي وفّره له عون، تارة بوضعه «المقاومة المسيحية» وجهاً لوجه مع «المقاومة الإسلامية» التي لم يسمها، وطوراً بتأكيد امتلاكه هو ــ لا عون ــ الشارع المسيحي. والثاني يتمسك برهان وجوده السياسي وهو إسقاط النظام السوري.
على أن أسباب الردّ التي تجمع بين الزعماء الثلاثة تكمن في المعطيات الآتية:
1 ــ المعلومات التي بلغت الى أركان 14 آذار بالواسطة نقلاً عن سياسيين لبنانيين زاروا دمشق في الأسابيع الأخيرة، والتي نسبت الى الرئيس السوري أن المرحلة المقبلة هي للانقلاب على حكومة السنيورة وإسقاطها،في إشارة إلى اللجوء إلى الشارع. كذلك نسبوا الكلام نفسه الى رئيس المخابرات العسكرية السورية اللواء آصف شوكت. وما لبث أن «كحّل» الأمين العام لحزب الله هذه المخاوف عندما تحدث الجمعة الفائت عن أن الهدف المقبل هو تأليف حكومة وحدة وطنية، وأن هذا المسعى جدي. وهي المرة الأولى منذ انفجار السجال حول مصير حكومة السنيورة التي يميّز نصر الله بين البقاء في الحكومة والموقف المبدئي من ضرورة تأليف حكومة وحدة وطنية.
2 ــ اعتقاد أركان 14 آذار بأن الهدف من إسقاط الحكومة الحالية تعطيل تأليف المحكمة ذات الطابع الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ويكتسب الأمر أهميته انطلاقاً من موازنة يجريها رئيس الغالبية الحاكمة لجهة تأكيده أن كشف حقيقة قتَلَة والده الرئيس الراحل مقدسة على نحو ما يعتبر حزب الله سلاحه مقدساً. تبعاً لذلك يجد الحريري في الدعوة الى حكومة وحدة وطنية محاولة ترمي الى تجريد الغالبية من نصاب الثلثين في مجلس الوزراء، والحؤول دون إمرار مشروع المحكمة الدولية لأسباب قد يتذرّع بها الفريق الآخر في آلية عمل المحكمة.
لكن الأمر لا يقتصر على تبسيط كهذا نظراً الى أن الحريري، وحليفه الزعيم الدرزي خصوصاً، يتوقعان أن تنتهي المحكمة الدولية بتوجيه اتهام مباشر الى الرئيس السوري وحليفه الرئيس اللبناني باغتيال رفيق الحريري، وفرض أمر واقع جديد يستعجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
3 ــ تنبّه الغالبية الى أن السلطة الفعلية التي تمسك بها في الحكم لا تتعدى غالبية الثلثين في مجلس الوزراء (المقيدة ممارسة) والغالبية المطلقة في مجلس النواب. وهما لا يمكّنانها في أي حال من الإمساك بكل مفاصل إدارة البلاد والحصول على المعلومات واستثمارها، على أهمية تطابق دورها ودور السنيورة الذي يحظى بدعم غير مشروط من المجتمع الدولي، والذي يعتقد، بدوره، أن لا بديل في الوقت الحاضر من استمرار حكومته. بَيْد أن اختبار القوة في الأيام الأخيرة بين الغالبية والفريق الشيعي في موضوع الأجهزة الأمنية أظهر لها أنها لا تملك سلطة الأمرة على هذه: لا الجيش تسيطر عليه بعدما نجح قائده العماد ميشال سليمان في تحييده عن النزاع الداخلي وكذلك هي حال مديرية المخابرات، ولا الأمن العام طوع يديها وقد خسر وزير الداخلية أحمد فتفت معركة إدارية في الظاهر وسياسية في الباطن مع اللواء وفيق جزيني، ولا جهاز أمن الدولة يتمتع بفاعلية تتيح للغالبية الحصول على المعلومات التي تحتاجها. في المقابل استفزّت الغالبية رئيس المجلس ودخلت معه في مواجهة مربكة انتهت بتخلي فتفت عن المبرر الجوهري للمشكلة، وهو توسيع دور فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي التي تريدها الغالبية جيشاً بديلاً بكل المغازي السياسية والأمنية والعسكرية.