إبراهيم الأمين
مرّة جديدة ينتقل الجميع الى المواجهة. بعد حريصا التي جرى نفخ الحضور فيها على طريقة توهم الفأر في برامج الرسوم المتحركة أنه بات فيلاً. ثمة جواب لا بد أن يسمعه من أقنع نفسه بأنه يمثل غالبية الشارع المسيحي، وخصوصاً أن هؤلاء قرروا اختبار نتيجة الضغوط التي مورست منذ قيام الحكومة الحالية على المعارضين لها في هذا الشارع. كذلك اختبار فعالية الإغراءات المالية الهائلة التي ضخّتها ماكينة آل الحريري من جهة والعائدات المجمّدة من عملية بيع أسلحة “القوات اللبنانية” أوائل التسعينيات، التي تبيّن أنها موضوعة باسم سيدة “القوات” الأولى وأفراد من عائلتها، بالإضافة الى ما تم تحصيله حتى الآن من ميراث “القوات” الموزع بين مؤسسات اقتصادية وإعلامية وإعلانية (يبدو أن هناك من نجح في جمع ملفات مدققة حول هذا الأمر).
وهذا الجواب هو محل تدارس الآن، وأقرب الى القرار لدى معارضي فريق الأكثرية في الشارع المسيحي، الذين يقودهم التيار الوطني الحر بزعامة العماد ميشال عون. وسوف تكشفه الأيام الأخيرة من الأسبوع المقبل، التي ستشهد احتفالات في كل المناطق اللبنانية قبل تتويجها باحتفال مركزي. علماً أن ملفّات الأكثرية ستفتح بدءاً من غد السبت في المؤتمر الذي دعا اليه التيار الوطني الحر تحت عنوان مراجعة ما قامت به السلطة الحاكمة (قبل خروج سوريا وبعده) والتي لا تزال على جمودها في معالجة موضوع المهجرين.
وإذا كان هناك كلام كثير سوف يصدر عن العماد عون ومساعديه خلال الفترة المقبلة، فإن الأمر بات يتعلق الآن بالجبهة السياسية المفترض أن تقوم لمواجهة مغامرة فريق الأكثرية الساعي الى الاستئثار بالبلاد ومواردها كافة، وهذه الجبهة ستتألف تدريجاً من القوى التي تمثل رأياً معارضاً للأكثرية والمنتشرة في جميع الطوائف، وتجمع بشكل أساسي التيار الوطني الحر إلى حزب الله وتيار المردة والوزير السابق طلال إرسلان والنائب أسامة سعد وتكون على علاقة وثيقة مع فريق اللقاء الوطني الذي يضم حشداً من الشخصيات المعارضة للأكثرية الحاكمة. وليس أمام هذه الجبهة سوى مهمة واحدة: تصحيح الخلل السياسي والتمثيلي القائم في السلطة.
من جانب التيار الوطني الحر، كان التردد دائماً حيال نشوء جبهة تقوم على تفاهمات مرحلية ولا تشكل أساساً لعملية نضالية طويلة تهدف إلى بناء دولة حقيقية. ولذلك فإن العماد عون ظل على الدوام أقرب الى صيغ تفاهم أو تعاون في بعض القطاعات وتحت بعض العناوين، ولا سيما أنه قادم من تجربة كان فيها الكثير من الاختلافات مع قوى قريبة من توجهاته السياسية الآن. ولكن عون الذي خاض اختباراً هو الأقسى له منذ عودته الى لبنان الى جانب المقاومة في مواجهة العدوان الاسرائيلي الأخير ومواجهة التآمر عليها من قوى الأكثرية، يحتاج الى مراجعة تقوده الى الإطار الأكثر فاعلية، وربما يجد نفسه اليوم أقرب الى القوى التي لم تكن في قلب السلطة التي قامت خلال فترة الوجود السوري والتي لم تنهب موارد البلاد ولم تشارك في تأزيم الوضع الطائفي والمذهبي وخلاف ذلك. اضافة الى انه لا يتجاهل لحظة واحدة الحساسية المسيحية التي تتسم بها حركته خلال الأعوام الأخيرة. لكنه يلتفت بقوة الى نوعية التسرب الذي حصل تجاهه من الطوائف الأخرى، حتى بات الأكثر انتشاراً في كل الطوائف قياساً بالمراجع الأخرى كلها، إذ لا يملك وليد جنبلاط تقديراً عند غالبية ساحقة من الشيعة والمسيحيين، ولديه مشكلة كبيرة مع ثلث السنة. بينما خسر سعد الحريري ما كان لوالده من رصيد خطير عند فريق كبير من الشيعة والمسيحيين، وتعرض السيد حسن نصر الله لهجوم عنيف وحملة تحريضية أفقدته الكثير من شعبيته عند السنّة والدروز. أما الآخرون من قادة الأكثرية فهم “ملتحقون” ولا حول لهم ولا قوة.
وبالتالي فإن عون الذي يرفض بأي شكل الدخول في تسوية من النوع الذي يؤدي الى إنقاذ السلطة الحالية، يدرك معنى خروج حزب الله من الحكومة الآن، وهو لا يريد قيادة المواجهة الى حدود الفراغ. ولذلك يراقب بدقة الخطوات التي يمكن الحزب أن يقدم عليها في الفترة اللاحقة، علماً بأنه يثق بأن نظرة الحزب إليه قيادة وقاعدة باتت تختلف جذرياً عما كانت عليه الأمور من قبل.
من جانب الحزب، فان الصورة أقرب الى صياغة موقف استراتيجي. اذ إن التجربة التي حصلت أكدت للحزب أن المشكلة ناتجة أصلاً من تراجع فريق الأكثرية عن التفاهم السياسي الذي حصل عشية الانتخابات النيابية، الذي قامت على أساسه الحكومة. ويستذكر وزير من حزب الله نقاشاً حصل يوم تأليف الحكومة الحالية ويبوح: “قلت لقيادة الحزب يومها: كيف تقبلون بهذه التركيبة التي ليس فيها ثلث ولا ضمانات بأن لا يذهب فريق الأكثرية نحو الاستئثار بالسلطة”، فكان الجواب الذي سمعه: “نحن هنا وفقاً لتفاهم سياسي لا لتوازن عددي داخل الحكومة”. ويستخلص الوزير من هذا الكلام ومن التجربة الأخيرة، أن هناك حاجة لتفاهم سياسي يدير الحكومة، وما دام فريق الأكثرية قد خرج عن الاتفاق السابق فلم يعد لاستمرار هذه الحكومة أي معنى. وهذا ما يجعل الحزب يعلن صراحة وبقوة أن لا مجال لاعتبار الحكومة الحالية ممثلة أو قادرة على القيام بمهمات تحظى بإجماع غالبية اللبنانيين، وبالتالي فلا بد من العمل لقيام حكومة وفاق وطني.
ولأن الحزب اختبر الكثير من الأمور خلال التجربة الاخيرة، فهو ينظر بحذر الى الخطة المفترض اتباعها في المرحلة المقبلة، سواء لناحية تحديد التوقيت أو الكيفية لتحقيق هذا الهدف. وهو يجد نفسه، وربما للمرة الأولى من زمن بعيد، أمام الحاجة المنطقية لتأسيس جبهة سياسية متفقة حول برنامج عمل سياسي تتم مناقشته مع فريق الأكثرية في محاولة للتوصل الى تفاهم ينتج حكومة وفاق وطني تجنّب البلاد أي نوع من الخضّات وتتيح معالجة أفضل للتحدّيات القائمة الآن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. علماً أن في الحزب من بات أكثر اقتناعاً بأنه من المفيد التفكير في خيار الانتخابات المبكرة.
يبدو أن السيد نصر الله عقد بعد العدوان سلسلة اجتماعات مع العديد من الشخصيات السياسية المحلية وناقش وإياها مختلف هذه الأمور، مما يمهّد لخطوات أكثر فاعلية في المرحلة المقبلة.