فراس زبيبلسنا من الذين هجروا بيوتهم في الجنوب، ونزحوا إلى مناطق أخرى هرباً من القصف الإسرائيلي.
لسنا من الذين تركوا في جنوبهم كل ما يملكون، وكل ما يتذكرون، وكل من يحبون. لسنا أيضاً من الذين فقدوا، في الجنوب، كل شيء. نحن من الجنوبيين الذين لم ينزحوا، خلال الحرب الأخيرة، من الجنوب. كنا هنا في بيروت، في الشقة التي هي بيتنا. كنا نشاهد الحرب على شاشات التلفزة، ونخجل من قلقنا على بيتنا الجنوبي، الذي هو بيتنا الثاني، بيتنا الآخر. أو إننا كنا حين نقلق عليه، نخبّئ قلقنا. كنا نضعه جانباً، نقمعه كما يقمع المرء حباً يعرفه مستحيلاً.
نحن من أهل الجنوب الذين نزحوا لأسباب سلمية من جنوبهم. نحن من هؤلاء الذين باتوا غرباء في قراهم. بتنا بيروتيين من أصل جنوبي، نردّ السلام على أهل قريتنا برفع اليد مثلهم، من دون أن نعرف أسماء الذين نلقي عليهم السلام، ومن دون أن نتذكّر وجوههم.
رأينا بيتنا في أحد الأيام على شاشة التلفاز. كان ذلك يوم حصلت في قريتنا مجزرة. مجزرة النميرية، كما سمّتها الوسائل الإعلامية. كان الصحافي في تلفزيون الـ«نيو تي في» أوّل الواصلين إلى المكان. تحدّث إلى أب العائلة التي استشهد كل أفرادها في القصف الذي استهدف منزلهم، القريب من منزلنا. تحدّث الرجل إلى الكاميرا مجيباً عن أسئلة الصحافي وهو تحت الصدمة. صدمة رجل خرج من المنزل ليشتري غرضاً، ولم يجد المنزل حين عاد. صار يتحدث كأنّه يروي قصة عائلة غير عائلته. صارت عيناه تبحثان عن المنزل الذي لم يعد، كأنّها لا تزال تأمل أن تراه، ولو في مكان غير مكانه.
في ذلك المشهد، صورت الكاميرا بيتنا. بدا منه سقفه، وحديقته وبعض شبابيكه. لم نتحدّث عن منزلنا في ذلك اليوم. لم نتساءل عن الأضرار التي قد تكون أصابته. صرنا نبحث في ذاكرتنا عن صور للأطفال الخمسة الذين ماتوا. عن جيراننا الذين لا شكّ في أننا نعرفهم ، لكن لا نعرف إن كانت الوجوه التي نتذكرها هي وجوههم.
الموت يجعل الدمار يبدو سخيفاً. لم يتحدّث الرجل الذي فقد عائلته إلا عنها، كأنّه لم ينتبه، في تلك اللحظة، إلى أنه كما بات وحيدا من دون عائلة، بات أيضاً مشرّداً لا منزل له.
في المرات التي استطعنا فيها أن نتحدث الى من بقوا في قرية النميرية عبر الهاتف، لم نسألهم عن بيتنا. صرنا نسألهم عن القرية، وعن أنفسهم، ونستنتج من أخبارهم أخبارنا.
ثم، في اليوم الأول لوقف الأعمال الحربية في جنوب لبنان، وصلنا خبر أول عن بيتنا هناك. اتصل بنا أحد الذين بقوا في قرية النميرية خلال الحرب، ليقول لنا إنه خلال مروره بجوار منزلنا وجد رجلاً غريباً في داخله، ووجد الأبواب والنوافذ مخلّعة ومفتوحة.
لسنا من أهل الجنوب الذين نزحوا هرباً من القصف الإسرائيلي على قراهم، ولكننا، في يوم العودة الأول، عدنا معهم. وكنا، على الطريق نحو الجنوب، مثلهم. عائدين الى قرانا التي لا نعرف ما الذي ينتظرنا فيها.
عدنا والقلق على منزلنا كبر فينا مع اقترابنا البطيء من النميرية. كأن قلقنا هذا على البيت بات حلالاً علينا منذ لحظة انتهاء الحرب. كأنه، في الثامنة صباحاً من ذلك اليوم، عاد ليصبح بيتنا.
الأضرار التي وجدناها فيه لا تذكر. أو أنها كانت لتذكر لو لم يصب غيرنا بأسوأ منها. كانت لتذكر أيضاً لو لم أجد على إحدى شرفات المنزل شظايا، حملتها بيدي عارفاً أنها وقعت عندنا بعد لحظات من وقوع الانفجار الذي مات فيه جيراننا.
الشظايا تروي قصة لحظة، سترويها دائماً كلما أمسكتها بيدي.