ما عادت الضاحية الجنوبية لبيروت تشبه نفسها. أهلها فقدوا حسّ التوجّه فيها، فصاروا يتوقّفون ليسألوا بعضهم بعضاً عن الاتجاه الصحيح.
فراس زبيبتغيّر معنى الدمار، وتغيّر شكله. في الضاحية الجنوبية رجال يبحثون بين الأنقاض عن بيوتهم. ينظر أحدهم إلى كومة حجارة وأثاث، ويقول لصديقه: «أنظر، هذه فرشة أخيك التي كان يضعها في الصالون لينام، وهذه الستارة، وهذه قطعة من قماشة الكنبة...».
ينحنــــي الآخر لينظــــر بين الأنــــــقـــــاض إلى حيث يدلّ إصبع الأوّل. كأنّـــــه ينظر من ثقــــــب باب إلــــى غرفة خلفه، ينظر إلى غرفة أخيه وصالونه تحت كومة حجارة.
المرأة التي لم تحضر أولادها معها عندما جاءت لتتفقّد شقّتها، لم تعرف كيفية الوصول إليها. عرفت أنّها في حيّها عندما دخلته عبر الجسر المحطّم، ولكنّها، من هناك، ما عادت تعرف كيف تمشي.
المباني والمحال التجارية والشوارع تدلّنا عادة على الأمكنة والاتّجاهات. الطريق مفهوم أوجده البناء. ففي الصحاري وعرض البحار، لا طريق لنسلكها، والاتّجاهات تحدّدها النجوم والبواصل.
كما يعود رجل إلى المنزل الذي كبر فيه، ويجد أنّ ساكنيه الجدد قد أعادوا تقسيمه بشكل مختلف وفتحوا الغرف على بعضها، هكذا يعود أهل الضاحية الجنوبية إليها. يعودون إلى مدينة غير مدينتهم، كما بيت الـــرجل بات غير بيته.
تتساءل المرأة التي لم تحضر أولادها خوفاً عليهم من التأثّر بمشاهد الدمار، إن كان هذا شارع منزلها. تبحث عن شيء يدلّها على أي شيء. تنظر حولها بكــــلّ الاتجـــــاهات، كأنهـا تبحث عن غرض وضعته في مكان ونسيت أين. ثم تجد على الأرض لافتة محل الفول، فتعرف أنّ المبنى الذي كانت
تسكن فيه قد هدم بالكامل.
يكاد المرء لا ينتبه لحجم الدمار، حينما ينظر إليه من داخل ضاحية بيروت الجنوبية. يكاد لا يراه، لأنه، أي الدمار، شامل لا يترك أثراً. في الماضي، كان الدمار عندما يصيب مبنى ما، يبقي المبنى واقفاً، شاهداً عليه. نقف اليوم في بعض أحياء الضاحية الجنوبية، وننظر إلى ركام المباني وأنقاضها، ولا نعرف كم يساوي الدمار هذا من أبنية، ومن شقق، ومن ناس.
لم نعد نستطيع استحضار المشهد السابق. الأحياء الكثيرة التي باتت ساحات فارغة إلا من الركام، فقدت ملامحها السابقة. فقدت شوارعها، ودكاكينها، وشرفاتها. وما عادت المباني موجودة لتروي قصة الدمار، ولتكون مرآته.
أهل ضاحية بيروت الجنوبية يلتقطون صوراً لأحيائهم التي لم تعد تشبه الأحياء.
يتنقّلون بين ركام المباني الممزوج بأثاث شققها، وينظرون إلى المشهد بعيون المكتشف لا العائد. عودتهم لا تشبه العودة. فهم كأنهم تركوا مكاناً ورجعوا الى غيره.
الرائحة التي قيل عنها إنها رائحة الموت ممزوجة برائحة البارود، هي رائحة الحرب. حرب جديدة دمارها يمزج في أنقاضه كل شيء.
بات التنزّه في الضاحية يستلزم كمّامات كتلك التي يضعها الأطباء في غرف العمليات. أمّ تضع كمّامة بيضاء على وجهها تمشي بين الأنقاض ممسكة بيد ابنها الذي يضـع كمّـــــامــة، هو الآخــــر.
أربع فتيات يتنزّهن داخل المربّع الأمني، مع كمّامات، ولا تبدو على وجوههن الضحكة التي نراها على حركة أجسادهن، ونسمعها.
المشهد يكاد لا يبدو واقعياً. فالكمامات البيضاء تخفي ملامح الوجوه، وتجعل الناس يشبهون بعضهم بعضاً، كأنّهم قناع واحد يمشي في كل مكان.
المباني التي لم تهدم بشكل كامل، خرج داخلها الى الشارع كما تخرج أمعاء الخواريف من بطونها حينما يعلّقها اللحّام في محله عارضاً إياها للمارّين. بيوت الناس وغرفهم تتدلّى من بعض المباني كأنّها أغصان شجرة لا نرى جذعها.
ثم نرى في المربّع الأمني في منطقة حارة حريك، شاباً يخرج من شقته الى الشرفة، في مبنى نصفه مهدّم، وينظر الى الدمار من حوله كأنّه يريد أن يعتاد عليه. ثم يجلس على كرسي، ويدخن سيجارة...