نقولا ناصيف
استعار قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إبّان «ثورة 1958» في تحديد موقف الجيش منها فكرة «القصبة» التي خبرتها فرنسا في مرحلة الثورة الجزائرية، وسرعان ما شاعت العبارة لدى الفرنسيين والجزائريين على السواء. كان المقصود بها أن يقوم الجيش بعزل مناطق الثوار وتطويقها بالجنود من دون دخولها ولا السماح لأحد بالخروج منها، فيحافظ بذلك على توازن قوى لا يعبّر عن تورط الجيش في النزاع. عامذاك بدت هذه التجربة مجدية، وحال شهاب أيضاً دون استيلاء الثوار على مخافر قوى الأمن التي دعمت قيادتها رئيس الجمهورية كميل شمعون وشاركت في القتال في مواجهة معارضيه.
لم يكن القائد يحب الرئيس، ولا الرئيس يحب القائد على جاري العادة في علاقة شاغلي المنصبين واحدهما بالآخر، على مرّ العهود ما خلا استثناءات نادرة. في «حرب السنتين» (1975 - 1976) استُعِين بالجيش للفصل بين المتقاتلين، فأخفق وانهار.
اليوم يواجه القائد الحالي العماد ميشال سليمان تجربة لا سابقة لها، هي انتشار الجيش على أرضه تنفيذاً لقرار دولي لم يرضِ لبنان في كثير من بنوده، هو القرار 1701 الذي يريد للجيش أن ينتزع السلطة على هذه الأرض من تنظيم لبناني هو صاحب القرار العسكري، أي «حزب الله». وقد يكون مغزى السابقة هذه، أن الجيش لا يستعيد هذه الأرض من منظمات فلسطينية خارجة على القانون على نحو لم يتحقق له ما بين 1968 و1982، ولا يستعيدها من الجيش الإسرائيلي بعد احتلاله الجنوب بين 1978 و2000. ولذا يبدو الامتحان شاقّاً ومكلفاً سياسياً. إذ أفضت الخلاصة الفعلية لنتائج حرب 12 تموز، الى أن ليس في وسع «حزب الله» وسوريا وإيران أن يربحوا مواجهة مع إسرائيل وأميركا، لكن في إمكانهم منعهما من الانتصار في هذه الحرب وفي هذه المنطقة.
وبسبب هذه الخلاصة وخلاصات أخرى، محلية وإقليمية، التي أبرزت الحاجة الى دور جديد للجيش اللبناني في المرحلة المقبلة حدد القرار 1701 إطاره، حصرت المؤسسة العسكرية علاقتها بالقرار ضمن المعطيات الآتية:
1 ــ إن الجيش غير معني إلا بما ينصّ عليه القرار 1701، وهو بسط سيادة الدولة اللبنانية كاملة وبلا منازع على الرقعة التي حدّدها القرار، الممتدة من جنوب نهر الليطاني حتى «الخط الأزرق»، ومنع أي مظاهر مسلحة في نطاقها. وهو بذلك غير معني بتجريد المقاومة من سلاحها ضمن منطقة عملياته العسكرية، ولا بالبحث عن هذا السلاح ودهم أماكن مفترضة له، لكنه سيصادر بالتأكيد أي مخبأ ذخيرة أو سلاح أو عتاد يكتشفه هو أو القوة الدولية في الجنوب.
2 ــ في ضوء اجتماعات عقدها الجيش مع مسؤولين في «حزب الله» خلص اتفاقهم الى تأكيد وقف كل أعمال المقاومة عبر «الخط الأزرق»، وكذلك في مزارع شبعا التي باشر الجيش اللبناني تمدّده الى نطاقها غير المتنازع عليه مع سوريا، مع أن القرار 1701 لا يشير الى هذا الجانب. بيد أن روح ما عناه هو منع الاحتكاك بين الدولة العبرية وأي جهة لبنانية. مفاد ذلك أن الجيش رسم، وهمياً، خطاً أزرق جديداً يصل بلدة الغجر بسفوح جبل الشيخ، بحيث ربط «الخط الأزرق» الحقيقي الذي وضعته الأمم المتحدة عام 2000، الناقورة بالسفوح تلك. الأمر الذي يؤول الى توقّف كامل لكل النشاطات العسكرية ضدّ إسرائيل من الجنوب.
وبالتأكيد ليس بين المسؤولين السياسيين مَن يتوهّم اليوم استعداداً إسرائيلياً أو أميركياً وشيكاً لإعادة مزارع شبعا الى الدولة اللبنانية. ولعلّ خير معبّر عن ذلك ما كان سمعه الرئيس نبيه بري من «الفهدة السوداء» ــ وهي العبارة التي يطلقها بإعجاب على وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ــ عند اجتماعهما في 24 تموز الفائت، إذ قالت له إن إدارتها لا توافق على حلّ فوري لمزارع شبعا «حتى لا يُستشم من ذلك إعطاء انتصار سياسي لحزب الله». كان بري يحاول انتزاع تأييد «الفهدة السوداء» لما ورد في خطة البنود السبعة التي اقترحها الرئيس فؤاد السنيورة في مؤتمر روما يوم 26 تموز، بوضع المزارع انتقالياً تحت سيادة الأمم المتحدة، مؤكداً لها أنه يوافق والحزب على هذا المخرج.
3 ــ ليس للجيش اللبناني أن ينخرط في النزاع الداخلي مع فريق، أياً يكن، ضدّ آخر. وعلى غرار ما فعل صباح 14 آذار 2005 عندما تجاوز إجراءاته المشددة وفتح حواجزه عند مداخل ساحة الشهداء أمام مئات الألوف من المواطنين الساخطين والغاضبين للتدفق إليها والاحتجاج على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فاتحة «انتفاضة الاستقلال»، مع أن أوامر السلطة السياسية قضت بمنع التظاهر، لا يذهب الجيش اللبناني الى الجنوب كي يواجه المقاومة ويجرّدها من سلاحها بالقوة. ولأنه لم يكن في 14 آذار 2005 أداة في يد السلطة لقمع مئات الألوف من المتظاهرين الذين كانوا يعدّون لإسقاط مرحلة الوصاية السورية وعهد الرئيس إميل لحود، فإن دوره في المرحلة المقبلة ــ وخلافاً لما يطمح إليه بعض أركان 14 آذار ــ لن يدفع به الى مواجهة ما لا يزال يدخل في صلب عقيدته و«أمر اليوم» العسكري، وهو مقاومة إسرائيل.
بحجّته السياسية هذه، أبرز الجيش اختلافه عن الانقسام السياسي الداخلي حيال موضوع المقاومة الذي هو جزء لا يتجزأ من الخلاف على موضوع السلاح. وهي المشكلة نفسها تقريباً التي خبرها قبل سنة ونصف في آذار 2005، عندما فضّل ألا ينحاز الى أي من طرفي النزاع في بلد لا يكون فيه منتصر كامل ومهزوم كامل، ولا منتصر دائم ومهزوم دائم: لم يتخلّ الجيش عن رئيس الجمهورية، ولم يتحوّل احتياطاً سياسياً لحركة 14 آذار. على الأقل حفظ درس فؤاد شهاب في 15 أيلول 1952 و16 منه. كان في انتفاضة «الجبهة الاشتراكية الوطنية» وحلفائها سنتذاك، للمفارقة، آباء بعض من قادوا حركة 14 آذار: كمال أبو وليد جنبلاط، وكميل أبو دوري شمعون، وحميد أبو سمير فرنجية، وغسان أبو جبران تويني، وبيار أبو كارلوس إده.