بومدين الساحلي
عبثاً حاول الأصدقاء إقناع أبي سامر بالانتقال إلى منطقة آمنة خلال فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان. فبيته يقع وحيداً في تلك الأرض المقفرة الممتدّة لكيلومترات عدّة طولاً وعرضاً، بين رأس العاصي ورأس بعلبك.
لكنّ أبا سامر كان كعادته في الشدائد يكتفي بإطلاق بسمة ودودة خافتة للتعبير عمّا يجول في داخله من امتنان ورفض.
عبثاً أيضاً ذهبت المحاولات الأخرى لمنعه عن الاستمرار في ريّ حقل الباذنجان المجاور لبيته، كي لا يكون عرضة دائمة لخطر طائرة الـ«أم. كا» التي حلّت ضيفاً دائماً على سماء الهرمل خلال تلك الفترة. وكانت الجملة الوحيدة التي ينطق بها عقب ابتسامته المعهودة: «الرزق غالي».
وبناءً عليه، وعلى مدى أيّام الحرب كلها، أمضى أبو سامر الليل تحت سماء مليئة بالنجوم، لأن الباذنجان يحب مياه الهرمل الباردة النقيــــة كل يوم، ولعل هذا ما أدى الى شهـــرة استعمــــاله في المكدوس.
وربما لم تكن نهاراته الحارة أفضل حالاً من لياليه الطويلة، فقد أمضاها متنقّلاً صباحاً بين الأصدقاء لتبديد ثمن المازوت اليومي في ظل إقفال محطات الوقود خشية استهدافها، وغياب الصهـــاريــــج بفعــــل الملاحقـــة الدائمة من قبل «أم كامل»، اسم الدلع لطائرة التجسس. ولعلّ الفترة الوحيدة التي كان أبو سامر يفترش فيها الأرض على مدار 24 ساعة من العمل، هي التي كان يغتنمها خلال عبور الميـاه شتلات الباذنجان من أول المسكبة الى آخرها، حيث يكون قد افترش أسفلها، مادّاً يده عند آخر الشتلات حتى إذا وصلت المياه انتبه وأسرع كي يحوّل المجرى الى مسكبة ثانية، ونوم جديد.
وزاد الطين بلة قيام أبي سامر وعائلته بـ"تعشيب " الحقل في الأيام الأخيرة للحرب، فمع كل غارة على الهرمل وجوارها كان الأصدقاء يتطلعون باتجاه حقل أبي سامر مطمئنين إليه حين لا يعلو الغبار تلك الأرض.
أمس الأربعاء شاهدت أبا سامر يحمل طلائع الباذنجان الى السوق في الهرمل، وما إن هنأته بالسلامة حتى شاهدت تلك الابتسامة المعهودة تعلو وجهه، ثم بادرني بالقول: يبدو أنك لم تنتبه جيداً الى ما قاله السيد مع بداية الحرب.
فعلاً الأمر يستحق بعض المغامرة بعيداً من الحسابات الخاطئة، وباذنجان الهرمل سيصل غداً الى بيوت الجنوبيين الذين أحبّوه دائماً وجعلوه ضيفاً على موائدهم، وهذه السنة كان قلبه ناصعاً بالبياض أما قشرته الخارجية فسوداء قاتمة: "حال الباذنجان كحال الوطن".