نقولا ناصيف
خلافاً لما تبديه دول واسعة النفوذ في مجلس الأمن، وآخرها فرنسا أمس، بالسعي إلى توسيع نطاق عمل القوة الدولية بنشر جنودها على الحدود اللبنانية - السورية، لا تبدو حكومة الرئيس فؤاد السنيورة متحمسة لخطوة كهذه، وقد لا تكون في صدد الموافقة في مجلس الوزراء على نشر جنود دوليين عند الحدود الشرقية، على غرار قرارها إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب في 7 آب. وفي واقع الأمر لا ينصّ القرار 1701 على نشر قوة دولية عند الحدود اللبنانية - السورية، بل يدعو، في فقرته التنفيذية 14، الحكومة اللبنانية إلى فرض الأمن على حدودها لمنع تسرّب أسلحة إلى هذا البلد، حاضّاً القوة الدولية على مساعدتها بناء على طلبها.
بذلك تطرأ عقبة رابعة في طريق تطبيق القرار 1701 مذ أصدره مجلس الأمن في 11 آب، كانت الأولى عدم التزام إسرائيل وقف الأعمال الحربية، والثانية قرارها منذ الاحد الفائت تجميد انسحاب جيشها من الأراضي اللبنانية التي احتلها بذريعة أن القوة الدولية الموجودة في جنوب لبنان حالياً (اليونيفيل) غير كافية لملء الشغور الأمني، والثالثة تباطؤ دول أوروبية كانت قد تحمّست لإرسال فرق عسكرية إلى لبنان ثم آثرت التريّث. أما العقبة الرابعة فلا تظهر حتى الآن أنها موضع إلحاح حاد وضغوط دولية بعدما لفت مسؤولون لبنانيون سياسيون وعسكريون موفدين دوليين وديبلوماسيين أجانب الى أن الأمر مرتبط بالسيادة الوطنية. يصحّ ذلك على المرافق الجوية والبحرية والبرية، وكذلك على الحدود اللبنانية - السورية الطويلة. وفضّلت السلطة اللبنانية عبارة «المعابر» على «الحدود» تفادياً لوضع الحدود مع سوريا في منزلة تلك التي مع الدولة العبرية التي سيرعاها تدبيران متلازمان: أولهما حزام أمني ينتشر فيه رجال القبعات الزرق يفصل مواقع الجيش الإسرائيلي وراء «الخط الأزرق» عن مواقع الجيش اللبناني داخل الأراضي اللبنانية، وثانيهما مراقبو اتفاق الهدنة المعقود بين البلدين في 23 آذار 1949.
وعلى أهمية المبررات التي يتسلّح بها المسؤولون اللبنانيون لتفادي الخوض في سجال حيال نشر قوة دولية عند الحدود الشرقية، أو بأبسط الأحوال التوسّع في تفسير القرار 1701 والاجتهاد في تطبيقه، على غرار ما عرفه القرار 1559، فإن لهذه الحدود تاريخاً طويلاً من النزاعات شهدتها العلاقات اللبنانية ــ السورية كانت دمشق تجعل منها باستمرار أداة مواجهة، تارة بإغلاقها لممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على لبنان، وتحديداً المعابر الشرعية بقاعاً وشمالاً، وطوراً باستخدامها لتهريب مسلحين وأسلحة، وخصوصاً من المعبر الأمثل في دير العشائر على امتداد عقدي الخمسينيات والستينيات حتى منتصف السبعينيات. وأتى الموقف الأخير للرئيس السوري بشار الأسد، أمس، في ربطه بين نشر قوة دولية عند الحدود و«عداء» سينشأ بين سوريا ولبنان، ليكشف مجدّداً أن شيئاً لم يتغيّر في موقف القيادة السورية من الحدود التي لا تعدو كونها - ولا كانت في الماضي - إلا المفتاح المناسب لانتقال الاضطراب، وكذلك الاستقرار، الى داخل لبنان. قالت بذلك وجهة نظر الرؤساء السوريين الذين تعاقبوا على حكم هذا البلد. وأضحت كذلك، بتشجيع من رئيس المكتب الثاني السوري العقيد عبد الحميد السرّاج، وجهة نظر الرئيس جمال عبد الناصر.
مغزى ذلك مفارقة أولى هي أن المراقبين الدوليين سبق أن خبروا الحدود اللبنانية - السورية إبّان «ثورة 1958»، في عزّ صراع أميركي - ناصري على النفوذ في المنطقة، وأخفقوا في مهمتهم، ثم بات دورهم عديم الجدوى عندما اتفقت واشنطن والقاهرة على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، في 31 تموز 1958، رئيساً للجمهورية خلفاً للحليف القوي للأميركيين الرئيس كميل شمعون.
على أثر تهريب أسلحة ومسلحين عبر الحدود مع سوريا الى «الثوار» معارضي شمعون سعياً الى إحداث فوضى في لبنان وإسقاط رئيس الجمهورية، تقدّم ممثل لبنان الدائم لدى الأمم المتحدة كريم عزقول، في 23 أيار 1958، بشكوى ضدّ الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها عبد الناصر الذي كان يقود مصر وسوريا معاً. ترافق ذلك مع إعلان وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس في 10 حزيران عن امتلاكه «أدلة متزايدة» على تدفّق أسلحة وأعتدة من الجمهورية العربية المتحدة عبر الحدود مع سوريا. في اليوم التالي، 11 حزيران، قرر مجلس الأمن إيفاد فريق مراقبين الى لبنان على جناح السرعة لضمان عدم حصول تسلل غير شرعي عبر الحدود لمسلحين أو أسلحة وأعتدة. بعد ساعات كان عدد قليل منهم عند الحدود الشرقية، سرعان ما رفع الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد، في 17 حزيران، عددهم الى مئة. لكن رئيس فريق المراقبين الدوليين غالو بلازا أعلن يوم 5 تموز أنه «لو حصل تدخّل خارجي شديد في اضطرابات لبنان لكنا اكتشفناه». ولاحظ أن من «المستحيل إغلاق الحدود اللبنانية - السورية»، وأن «عشرة آلاف جندي مدرّبين في حروب الجبال لا يستطيعون القيام بالمهمة على الوجه اللائق». كانت البغال والسيارات والشاحنات حينذاك التي لم يرها المراقبون الدوليون تعبر بصناديق الأسلحة والذخائر عبر الجرود والطرق الوعرة، وكان زعماء «الثورة» يفاخرون بتلقيهم السلاح من سوريا.
تبيّن أن المطلوب تسوية سياسية، لا عسكرية، للحرب الصغيرة آنذاك الدائرة في لبنان تولاها بين القاهرة وبيروت موفد أميركي خاص هو روبرت مورفي.
أما المفارقة الثانية، فهي أن مسؤولاً لبنانياً بارزاً كان قد أبلغ في الأيام الأخيرة الى سفير دولة كبرى أن خطوة كهذه تتطلّب إرسال نحو 8000 عسكري دولي الى الحدود اللبنانية - السورية كي يحلوا محل الجيش اللبناني. كذلك سمع ديبلوماسيون غربيون من مسؤولين حكوميين وعسكريين كلاماً مماثلاً، وهو أن الخوض في إرسال قوة دولية الى الحدود مع سوريا ينطوي على ملاحظات قد لا تتقبلها السلطة اللبنانية: أولاها التشكيك في قدرات الجيش اللبناني في مراقبة هذه الحدود التي يحصر القرار 1701 مسؤوليتها به وحده، وثانيتها أن نشر جنود دوليين على شريط حدودي من العريضة شمالاً الى راشيا في البقاع الغربي يرتّب أعباء لوجستية كبيرة ومعقدة تتصل بسلامة هؤلاء الجنود وحمايتهم في انتقالهم وضمان خطوط الإمداد لهم، وثالثتها أن المطلوب وقف تدخّل سوريا في الشؤون اللبنانية ومنع مدّها «حزب الله» وتنظيمات فلسطينية موالية لها وكذلك تنظيمات أصولية توجهها دمشق، بالسلاح، لا جعل الحدود الشرقية حدوداً سورية - فرنسية أو سورية - أوروبية.