رنا حايك
أحمد كنج، طفل من الشياح عرف أنه سيقتل. برهن على صدقية مشاهد الأفلام العربية التي يودع فيها البطل حبيبته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ترى، من ودّع أحمد حين باغتته القذيفة وهو يلهو في مقهى للإنترنت وسط أطفال لا يعرفهم في شارع الحجاج؟
لم يبد عليه الخوف طوال أسابيع العدوان. مهدت له طائرات الـ«أف 16» دخول عالم الكبار، وتحدّته لاكتشاف رجولته. الرجال لا يخافون ولا يبكون، والرجال يسخرون من الموت. أحمد تشبث بالحياة فألحّ على أهله للخروج من الملجأ ليلعب في مقهى الإنترنت مرة، ويستحم مرة أخرى. وفي مرّة ثالثة ليشتري حذاءً جديداً، اختاره برباط. وعندما احتجّت والدته على الرباط، قال لها باستخفاف طفل وبأسلوب الدفاعات النفسية لبالغ: «حتى إذا متّ يعرفوني من الصباط».
يصبح الموت نكتة. يصبح حدثاً يومياً. ويصبح الميت رقماً في مجزرة. يصبح الجميع مشروع جثة، فيأخذ الطفل كل احتياطاته. يلعب في الشارع ويركض لجمع مناشير تعده بالموت ويشتري أحذية. يعيش، يحضّر لمماته، ولأنه طفل لا يكترث لبيروقراطية الأوراق الثبوتية بعد، يبحث في أشيائه البسيطة عن تمايز يصلح للتعرف على جثته. يفكر في أهله وهم يجمعون أشلاءه ويبلغهم بأن شريط الحذاء سيكون دليلهم.
أحمد يتردد منذ أربعة أعوام على نادي المسرح الذي يديره مركز الشؤون الإجتماعية في الشياح. بعد وقف إطلاق النار، اجتمع أصدقاؤه في النادي للمرّة الأولى منذ شهر. كرسيّه كان فارغاً. عدّ الأطفال أصدقاءهم. جلسوا وكل منهم يتلفّت حوله في القاعة، يحصون من تبقى منهم ومن حصده الموت.
ذاكرة الأطفال لن تعود كما كانت قبل تموز. لملموا ذكريات ساعات قضوها معاً. لم يعتقدوا يوماً أنها ستنتزع منهم بهذه القسوة وبهذا العنف. لملموا مأساة المواجهة الأولى مع الموت المباغت الذي قتل الكثير من طفولتهم وذهبوا لاستيعاب الصدمة الأولى بتقديم واجب العزاء لأهل أحمد. دخلوا عالم الكبار من بوابة الموت. ففهموا مبكراً. أصرّوا على زيارة الأهل لتقديم واجب العزاء. قالوا لأمه الكثير عن حبهم وافتقادهم لحيويته و«هضامته» في النادي.
ورغم كل ما قالوه لم يستطيعوا انتزاع الأم الثكلى من صمتها. أجابتهم دموعها فقط. منذ موته، لم تتكلم. وكأن الصمت أسلوبها في كتم الحرقة وفي تثبيت الوقت عند المرة الأخيرة التي حضنت فيها أحمد.
لم تتقبل موته بعد ولا تستطيع إيقاف الزمن من حولها عند لحظة تسبق الصاروخ الذي قصف شارع الحجاج في الشياح عصر يوم من أيام تموز.
ذلك العصر الذي ملّ فيه أحمد المليء بالحيوية من رطوبة الملجأ ومساحته التي كانت أصغر من أن تستوعبها فاستسمح أمه بالطلوع إلى مقهى الإنترنت. دقيقة، بل حتى ثانية، ممكن أن تفصل بين حياة وموت في مدينتنا المفخخة.
الاحتضان لم يعد ممكناً بعد اليوم. استرجاع الماضي فقط هو المتاح من خلال بعض الصور التي تحمل ملامح الوجه الدقيقة ولون العينين الحقيقي. العائلة المتواضعة لم يكن لديها كاميرا فيديو. فلم تحفظ سوى اللقطات الصامتة من حياة طفلها في كاميرا عادية وفرحت كثيراً عندما أخبرتها مديرة مركز الشياح للشؤون الإجتماعية أنها سجلت فعاليات نادي المسرح الذي يظهر فيه أحمد وهو يتحرك ويتكلم ويجادل. هكذا تصبح الصورة البرهان الوحيد على حياة انتهت ويصبح شريط الحذاء الدليل الوحيد على هوية طفل قتل.
هل أنت راض يا أحمد.