الهرمل ــ رامي بليبل
يجلس أبو غسان على حجر منحوت على شكل مقعد في إحدى زوايا «مزرعته» بعد أن أرهقه التعب، تاركاً ما تبقى من أسراب السمك النافق لابنه المهندس علي والسيّد مرتضى علّهما يستطيعان إنقاذ ما تبقّى في تلك الأحواض المملوءة بماء العاصي المتدفق.
عشرات الأطنان من أسماك الترويت النافق تكدّست منتشرة عند كل حوض من الأحواض العشرة. ينظر إليها أبو غسان بعين الحرقة ويتنهّد تنهيدة عميقة تخرج من القلب: «جنى العمر ولقمة عيش الأيام القادمة». لكنه يستطرد قائلاً: «كلّه فدا الشباب».
حال مزرعة أبي غسان تشبه حال أكثر من 80 مزرعة لتربية الأسماك في حوض وادي العاصي، طاولها القصف الإسرائيلي بشكل مباشر أو غير مباشر. فقد أدّت بقايا البارود والذبذبات الصوتية القويّة التي خلفتها الصواريخ في محيط جسر العاصي والمعلقة وبيت الطشم، وكذلك الأتربة والأوحال التي جرفها النهر جراء القصف، إلى نفوق ما يقارب ثلاثمئة طن من الترويت الذي يتسابق أهالي أوروبا وأميركا الشمالية وآسيا الشرقية، ولا سيما اليابانيون، على إنتاجه واستهلاكه لارتفاع قيمته الغذائية وخلوّه من الملوّثات. فالترويت لا يعيش إلا في المياه النقيّة والخالية من التلوث كمياه العاصي التي لم يزرها وزير السياحة قبل الحرب ولا بعدهاخسائر وادي حوض العاصي الذي تركزت عليه هجمات المقاتلات الإسرائيلية طاولت القطاع الزراعي بشقيه. فأولاً، قدّرت خسائر الأراضي الزراعية ومواسمها بأكثر من 1500 هكتار إما بسبب القصف أو بسبب كساد المواسم وعدم قطاف الثمار وتصريف الإنتاج، أو بسبب عدم القدرة على الري والتسميد. وثانياً، توقفت عملية تصريف إنتاج الثروة الحيوانية من حليب ومشتقاته أو أسماك ولحوم. كما نفدت الأعلاف اللازمة وتعذّر وجودها وحرم الرعاة من التجوال بقطعانهم فأضحت أسيرة الزرائب والإسطبلات .
يهز عبد المنعم رأسه قائلاً: «القطاع السياحي تضرر أيضاً، ولم يبق في المقاهي والمتنزهات كرسي أو طاولة، ورجعنا عالحديد». أكثر من «27متنزهاً» في محيط الجسر الرئيسي تعرضت لأضرار بالغة في المنشآت، فضلاً عن «هروب» الموسم السياحي الذي له في كل سنة «حفلة نكد». يضيف أبو محمد مشكلة جديدة وهي أن الدولة غائبة كلياً، وإذا أرادت المساعدة فتأتي المساعدة من «الدلفة لتحت المزراب». أغلب المطاعم والمتنزهات موسمية وليس لديها ترخيص، «والدولة ما بتعوّض إلا عالمرخّص وإذا قبضنا فمن الجمل إذنه».
عشرات العائلات في حوض وادي العاصي مهددة بلقمة عيش أولادها. فالراعي والمزارع ومربي الأسماك في خندق واحد عنوانه «فقدان مورد الرزق» وتهديد الأطفال بالتشرد والتسكع في الحواري والأحياء بعيدين عن نعيم المدرسة وفضائل المدرسين. وهم بحاجة إلى لفتة سريعة من قبل المعنيين الذين لا يأبهون للفقراء القابعين بين مطرقة الهيئة العليا للإغاثة وسندان الدائنين.
الخسارة كبيرة وتداعياتها مستمرة حتى الصيف القادم. وأرقام الفواتير مذهلة وكلها ممهورة بتوقيع المدين «الدفع عالموسم». رئيس نقابة مربي الأسماك في البقاع السيد شرف الدين الموسوي يقول: «الحرب زادت الطين بلة. فزيادة على أننا نشكو من تدني أسعار السمك حيث إن الكيلو الجاهز بدولارين فقط، إلا أن الحرب جاءت لتدمر كل شيء وليس من يلتفت لحالنا».
عند باب المزرعة كانت تقف جميلة تنتظر انتهاء الاجتماع لابتياع بضعة كيلوغرامات من السمك لأولادها. لكن جموع الخارجين أجابوها بصوت واحد: «ما ضل، تنعاد عليكي للصيف القادم».