راجانا حميّة هناك، على أنقاض ضاحية بيروت الجنوبية، تندب قانا أطفالها. تصرخ أمّهات صريفا. تنوء الشيّاح بشهدائها. وتنتظر عيترون خبر الانتصار من مجاهديها، وكذلك الدوير وعيتا الشعب...
هناك في الضاحية الجنوبية، وعلى بعد أمتار قليلة من مربّع “السيد” الأمني، “تقبع” ثلاث وثلاثون لوحة للفنان التشكيلي اللبناني جورج الزعني والإيطالي باسكال كارينزا، تختصر ثلاثة وثلاثين يوماً من العدوان المدمّر على لبنان وتشهد على إجرامه.
في مربّع السيّد، يروي “مجاهدون” من لبنان بالرسم والكلمات قصّة شهداء ومقاومين قضوا “في زمن الصمت”، يحضرون الجنوب بمجازره ومآسية “الثلاث والثلاثين” ونصره.
ثلاث وثلاثون لوحة رسمها الزعنّي مع انطلاق الرصاصة الأولى على لبنان، وأرادها في “معقل الحزب” لتكون شاهداً على همجية العدوان الإسرائيلي.
يبدأ الزعنّي “يومياته” بصرخة قانا “لتلميذه” الإيطالي باسكال كارينزا، ليفتتح بها سلسلة يوميات قاسية ودامية عاشها لبنان على مدى خمسة أسابيع. معدّاته “مجموعة كلمات وصور وعناوين صحف ولونان” وكثير من “الحمام وشقائق النعمان”. ومساعدوه ثلاثة “مجانين” مؤمنين بغصن الزيتون ورسالة السلام “المزيّف”.
أوّل لوحة بعد “صرخة قانا” يخصصها الفنّان لـ“المقاومة الإسلامية”، ويعلّق على اختياره هذا بأن “المقاومة منتصرة منذ اليوم الأول للعدوان”. تتميّز هذه اللوحة، كما الأخريات، بخلفيتها البيضاء “الملطّخة” بالأحمر وبالوجوه السوداء “الغاضبة” حيناً و“المتوعّدة” أحياناً أخرى. وفي الأعلى حمامة جريحة تتكفّل إيصال البريد “الساعري” هدية من “تل أبيب” إلى أطفال “الصمود”، وفي الأسفل “جبابرة” المقاومة بالمرصاد.
لوحة أخرى ترسم ملامح ضاحية ما بعد العدوان، ضاحية خالية من وهجها، من أبنائها ومن بيوتها، ولكن لا ينسى هذا الفنّان ترك ولو بصمة خفيفة توحي بالنصر الذي يبدو جليّاً في لوحاته جميعاً. فشقائق النعمان تسكن في كل الزوايا وعلى الوجوه بين جناحي الحمامة.
لوحة ثالثة تترك الضاحية متوجّهة إلى “جنينة الصنائع”، مكان الإقامة القسري لآلاف النازحين، يتوّجها بصور من الصفحات الأولى للصحف “تحكي آلامهم ومآسيهم”.
لوحة رابعة وخامسة وسادسة تسرد حكايا الشهداء، تنتفض فيها الألوان الحمراء والبيضاء، تتفتّح في أسفلها شقائق النعمان وتسقط بريداً “ديفورياًّ” وقرارات دولية... تدفنها “مع أنقاض المربّع”.
لوحات كثيرة أخرى تختصر مسيرة “شباب الحزب في عيتا الشعب ومارون الراس وبنت جبيل”، لتصل “نحو النصر” في اللوحة الثالثة والثلاثين.
حمام الزعنّي في لوحاته الثلاثين يعاني “الألم والوجع لكونه ما عاد ذاك الداعي للسلام والأمل”. وبات دوره مقتصراً على نقل التبليغات الإسرائيلية “بريد ساعري” بلّغ، “بريد بوارجي” أطلق، وهكذا لنصل إلى اللوحة الأخيرة “7/7” (النصر).
“تشكيلة” لوحات نالت إسرائيل قسطاً وافراً منها، أو لربّما كانت إسرائيل أساسها، فالمفردات المستخدمة “إسرائيلية”، والعناوين تحاكم جرائمها والضحايا هم ضحاياها والعدوّ “هي”.
تتمايز هذه اللوحات بمفرداتها المستخدمة ودلالاتها ومواضيعها، لكنّها تجتمع على رسالة واحدة نتيجتها “مقاومة”، أراد من خلالها الزعنّي إبراز الوجه السلبي لـ “بني صهيون” وإعطاء “المقاومة حقّها”.
لكن اللافت فيها، أنّ صور العدوان لم تظهر سوى في ثلاث منها، ذلك لأنّه “أوكل للصحافة أمر إبراز المشاهد المؤلمة في الوقت الذي نتفرّغ نحن الفنانين لصناعة النبض وإعادة الحركة إلى لبنان”.
إعادة النبض لم تكن فكرة الزعنّي وحده، فقد لبّى النداء ثلاثة فنانين آخرين هم محمّد نور الدين الذي اقتصرت اهتماماته على “طمأنة اللبنانيين إلى أشقائهم العرب: نحنا بخير طمنونا عنكم”، والفنان البريطاني آرو فيش الذي حاول من هنا، من لبنان، توجيه تحيّة للأطفال اللبنانيين من أترابهم في فلسطين، وذيّل تحيّته برسم “طائرة ورقيّة ملوّنة” على الجدران المهدّمة، وكتب تعليقاً يتحدى به الدولة العبرية “إليكم يا أطفال لبنان طائرات ملوّنة يطلقها أترابكم في رام الله من الأسطح والشرفات احتفالاً بنصركم، وإليكِ أيتّها العدوّة أنّنا لن نركع”.