نادر صبّاغ
قرّروا الرحيل. حسموا أمرهم حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها. لبنان ما بعد العدوان الإسرائيلي الأخير لم يعد في نظرهم هو نفسه قبل 12 تموز. إنهم لبنانيون فقدوا الثقة بمستقبل بلدهم.
الطوابير الطويلة على أبواب السفارات الأجنبية تشهد عليهم، مواطنون من مختلف الطوائف والأعمار، قرروا ترك البلد والبحث عن مستقر آخر، أكثر أمناً واستقراراً.
الغالبية في سن الشباب، وإن كان بينهم عائلات لم تفكر يوماً في الهجرة حتى في خضم الحرب الأهلية. الخوف من المستقبل بات في نظرهم أقوى من الإيمان به. نوعية الدمار وطبيعة الحرب التي فرضتها إسرائيل على مدى 33 يوماً أخافتهم كثيراً. إنها غير الحرب التي عرفها بعضهم سابقاً. «الملاجئ لم تعد تحمي، والقذائف والصواريخ باتت أقوى وأعنف، مستقبل المنطقة على كف عفريت»، ولبنان جزء من هذه المنطقة التي ينــــوون الابــتعاد منـــها قدر المستـــــطاعليس هذا الـ«لبنان»» الذي يريد ربيع أن يربّي أولاده فيه. لم يعد الموظّف الخمسيني قادراً على تحمّل الحروب. «شهدت في حياتي أكثر من سبع حروب مدمرة عصفت بلبنان، لم أعد قادراً على الاحتمال، ولا أريد لأولادي أن يعيشوا المآسي التي عايشتها والتي لم أنسَها بعد. اعتقدنا بأنها انتهت، وآمنا بمرحلة النهوض وإعادة الإعمار، جاءت إسرائيل وغيرت كل شيء خلال يومين، لا مستقبل في هذا البلد، بات الأمر واضحاً لي».
في نظر طالبي الهجرة، تبدو معالم المرحلة المقبلة غامضة. الكلام عن حرب أهلية يطغى على أحاديث الكثيرين. «ماذا بعد انتصار حزب الله، هل ستكون فتنة بين السنة والشيعة، هل ستقع حرب بين المسلمين والمسيحيين. كيف ستتصرف جماعة 14 آذار مع الحزب. ماذا ستفعل سوريا. هل صحيح أن القوات اللبنانية حصلت على سلاح، وهي تدرب مؤيديها في معسكرات استعداداً للحرب. هل ستسكت إسرائيل على هزيمتها، من المؤكد أنّه ستكون هناك جولة ثانية وبالطبع ستكون كسر عظم هذه المرة، ولن يحتملها البلد وقد تطال سوريا وإيران». هذا بعض مما يتناقله الخائفون على لبنان وعلى مستقبلهم فيه، خائفون يريدون الهجرة.
نورا وزوجها وطفلتهما روى التي لم تبلغ الثالثة من العمر بعد يؤلفون عائلة لبنانية تبحث عن وطن. هي معلمة في إحدى المدارس الخاصة، وهو موظف لم يمض على زواجه أربعة أعوام. كدّ وتعب كثيراً لشراء منزل في خلدة، لم يفكرا يوماً في الهجرة، كانا سعيدين بحياتهما. اليوم يبدوان خائفين على ما ينتظرهما، والبحث جار عن بلد عربي قريب من الوطن، وتبدو دبي الأقرب لما يرجوانه.
يعمل ضرار في تجارة الألومنيوم منذ سنوات. البحبوحة المادية التي كان يعيش فيها دفعته وأسرته لتوسيع أعمالهم منذ عام 2001. يقف ضرار اليوم على مفترق طرق. يفكر جدياً في تصفية أعماله والهجرة إلى مكان يظنه أفضل لأولاده الثلاثة. يؤسس فيه، ولا يخاف على ما أسس له. القرار صعب، لكنه يعتقد بأن لا خيار أمامه.
«لم يعد البلد لنا»، يقول ريمون المتخوف على هويته المسيحية، الذي كان ينوي بناء فندق صغير في إحدى قرى الجنوب. «وظيفة مضمونة في بلد أوروبي أفضل من التعب على ما قد يدمر في لحظات، ماذا الذي يمنع أن يتكرر ما حصل، لا شيء، لن يستطيعوا نزع سلاح حزب الله، ولن تسكت إسرائيل على ذلك، وستضربنا مجدداً».
زياد موظف بنك، وزوجته رنا معلمة. زياد يكره البرد القارص، لكن أقصى طموحه اليوم السفر مع زوجته وطفليه إلى كندا، علها تكون بداية جديدة لأسرته.
روايات شبيهة تتكرر بأبطال مختلفين. الكلام عن موجهة هجرة جديدة يكثر في لبنان هذه الأيام، من الجنوب مروراً ببيروت والجبل حتى الشمال. ليس «المهاجرون» من طائفة معينة، وليس «الصامدون» كذلك. لكن الإحصاءات التي ستكشفها الأيام المقبلة قد تظهر أن أرقام الطامحين لترك الوطن في عام 2006 ستكون أكثر من أرقام أولئك الذين تركوا لبنان على مدى سنوات الحرب الطويلة... وذلك على الرغم من «الانتصار».