نقولا ناصيف
قبل أسبوعين، عشية نشر الجيش اللبناني جنوبي نهر الليطاني وعند الحدود اللبنانية ــ السورية لمنع تهريب سلاح إلى «حزب الله» تنفيذاً للقرار 1701، طلبت قيادة الجيش إلى الأمين العام للمجلس الأعلى السوري ــــــ اللبناني نصري خوري إطلاع القيادة العسكرية السورية على الأمر في إطار العلاقة التي لا تزال تجمع بين قيادتي الجيشين، عملاً بالمعاهدة اللبنانية ــــــ السورية التي لا تزال سارية المفعول. وعاد خوري بجواب من دمشق، ومفاده إبداء ارتياحها إلى ما يعتزم الجيش اللبناني القيام به، وخصوصاً أن الانتشار العسكري سيقتصر عليه. كان ردّ فعل القيادة العسكرية السورية أيضاً أنها تتولى بدورها مراقبة المقلب الآخر من الحدود.
منذ انسحب الجيش السوري واستخباراته العسكرية من لبنان قبل أقل من سنة ونصف سنة، اتسمت علاقة الجيش اللبناني بنظيره السوري بطابع التزامه الإطار القانوني الذي يجمع بينهما، وهو معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق الموقّعة بين البلدين عام 1991، ولكن مع تحوّلات ملحوظة ظلت بعيدة من الأضواء، كان قد أوجبها الانقلاب السياسي الذي أط اح حكم الحقبة السورية لبنان:
ــــــ توقّف تبادل المعلومات الأمنية، خلافاً للمرحلة السابقة التي طبعتها الغزارة، ولكن من وجهة واحدة هي انتقال هذه المعلومات من بيروت إلى دمشق، دون معاملة بالمثل.
ــــــ تراجع تدريجي لدورات تدريب الضباط اللبنانيين في سوريا إلى أن انقطعت كلّياً قبل ثلاثة أشهر مع الدورة الأخيرة.
ــــ اقتصار الاتصال بين طرفي لجنة الارتباط العسكرية اللبنانية ــ السورية على ضابط لبناني واحد يذهب إلى دمشق للمراجعة في أمر تقني، بعدما أحجم نظيره من الجهة الأخرى عن زيارة بيروت.
ــــــ بقي من العلاقة السابقة مسألة تكاد تكون وحيدة، ومحض تقنية، هي حاجة الجيش في أوقات متفاوتة إلى قطع غيار وصيانة لأسلحة وآليات كانت سوريا قد زوّدته إياها في مرحلة إعادة بنائه مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي.
وإلى أن تقول الحكومة اللبنانية كلمتها في المسمار الثالث في علاقات لبنانية ــــــ سورية غير متكافئة، هو المعاهدة النافذة بين البلدين، إلغاءً أو تعديلاً، فإن الجيش، خلافاً للسياسيين اللبنانيين ــــــ وأخصّهم فريق الغالبية ــــــ يقارب منذ 14 آذار 2005 العلاقة مع سوريا على النحو الذي لا يزال ينظّمه القانون، وفي الوقت نفسه تحت سقف تنفيذه ما ناطه به القرار 1701، وهو تحقيق السيادة الوطنية في مواقع ثلاثة لحظها مباشرة أو مداورة قرار مجلس الأمن: الحدود اللبنانية ــ السورية، مزارع شبعا، «الخط الأزرق». وحمله هذا الأمر، قبل أقل من أسبوعين، على رفض اقتراح قضى بمرابطة ضابط دولي، في الغالب فرنسي، في غرفة عمليات الأركان العسكرية اللبنانية في وزارة الدفاع لمراقبة الإجراءات التي ينفذها الجيش تطبيقاً للقرار 1701، تحت شعار تقديم المساعدة والخبرة اللازمتين في مهمات الجيش اللبناني. كان ردّ القيادة العسكرية رفض الاقتراح لسببين متلازمين: أحدهما هو السيادة الوطنية التي تمنع مشاركة ضابط أجنبي في غرفة عمليات الأركان العسكرية اللبنانية، والآخر تفادي تكرار تجربة مكتب التعاون العسكري الأميركي ــــــ اللبناني في قيادة الجيش عامي 1982 و1983 إبّان وجود مشاة البحرية الأميركية في لبنان، حيث لزم ضبّاط أميركيون غرفة الأركان باسم إعادة بناء الجيش اللبناني أيضاً آنذاك.
على نحو كهذا، رفض الجيش طلباً جدياً تراجع عنه أصحابه ــــــ وبعضهم تبرّأ منه ــ هو نشر جنود دوليين على الحدود اللبنانية ــــــ السورية. وتبعاً لذلك قدمت القيادة العسكرية في اجتماعها بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مساء الاثنين 28 آب لائحة بمعدات تقنية متطورة يحتاج إليها الجيش في مراقبة دؤوبة للحدود الشرقية، شرط أن يصار إلى تدريب عسكريين لبنانيين على استخدامها تجنباً لأي وجود دولي على طول السلسلة الحدودية. يفضي ذلك إلى طرح التساؤل الآتي: أي واقع سيكون عليه جنوبي نهر الليطاني والحدود اللبنانية ــــــ السورية في ظل انتشار الجيش اللبناني؟
يمكن التوقف عند معطيات أبرزها:
1 ــ أن بسط الجيش سيطرته على الحزام الأمني الذي تحدّث عنه القرار 1701، وهو المنطقة المنزوعة السلاح، لا يقتصر على وقف نهائي وقاطع لهجمات «حزب الله» على إسرائيل عبر «الخط الأزرق» ومزارع شبعا فحسب، بل هو يعبّر ضمناً، في ظل استمرار احتفاظ الحزب بسلاحه في هذا الحزام وخارجه، عن معادلة أمر واقع جديد هي: الغارات في مقابل الصواريخ، أو العكس. تالياً فإن كلاًّ من طرفي النزاع، أي إسرائيل و«حزب الله»، سيهدد باللجوء إلى سلاحه هذا من غير أن يكون في وسعه استخدامه فعلاً، ما دام أي منهما لم يعد في مواجهة الآخر على غرار ما كانا عليه عند «الخط الأزرق» وفي مزارع شبعا.
2 ــ أن احتفاظ «حزب الله» بسلاحه شمالي نهر الليطاني يرمي إلى تأكيد بقائه في دائرة خيارات عسكرية متاحة كلما بدا أن إسرائيل تريد الإخلال بالقرار 1701، وبوقف النار الذي لم يدخل بعد حيّز التنفيذ. والمقصود بذلك ــ وكان هذا الأمر مثار مفاوضات بعيدة من الأضواء بينه وبين الجيش ــ حماية قادة الحزب من جميع المستويات بدءاً بالأمين العام السيد حسن نصرالله من أي عملية أمنية يمكن أن يُقدِم عليها الإسرائيليون، لاغتيالهم أو اعتقالهم تعويضاً لإخفاقهم في حرب الأيام الـ33، على غرار محاولة الإنزال في بعلبك قبل أسبوعين. ويتسلّح الحزب بإصراره على الاحتفاظ بسلاحه في الحزام الأمني وخارجه كإحدى الوسائل الضاغطة على إسرائيل بعدما خبرت هذه فاعلية ترسانته العسكرية وخطورتها. ومن غير أن يكون قد حصل بالضرورة على جواب مباشر وشاف من الجيش عن استعداده لاستخدام ترسانة صواريخه إذا سلّمه إياها، يدرك «حزب الله» أن واقع الجيش وقدراته وحجم تسلّحه لا تمكّنه من استخدام هذه الصواريخ في مواجهة الجيش الإسرائيلي كما فعل الحزب على امتداد أيام الحرب الأخيرة.
3 ــــــ إن أهم ما قدمه القرار 1701 لفريق الغالبية, وقَبِل به الحزب والرئيس إميل لحود على مضض, هو العودة الى اتفاق الهدنة للمرة الأولى منذ توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 عندما سقط الإتفاق بعد هدوء الحدود اللبنانية ـــــ الاسرائيلية ما بين 1949 - 1969. وتالياً ينتزع إتفاق الهدنة من الحزب آخر المبررات السياسية, لا العسكرية فحسب, للاشتباك مع إسرائيل, ويعيد الاعتبار إلى الجيش الذي لا يحرس الحدود بل يحترم تنفيذ اتفاق أعاد القرار تكريسه.