في عددها الصادر في 24-8-2006، أي بعد أيّام من انتهاء الحرب التدميريّة، توحي الجريدة الرسميّة كأنّ الحرب لم تحصل. فباستثناء إشارة مقتضبة إلى «تعرّض المرافق البريّة والبحريّة والجويّة للاعتداءات الإسرائيليّة» (وذلك تبريراً لقرار صادر عن وزير الزراعة بتعليق العمل ببعض المعايير الصحية)، تخلو الجريدة من أيّ ذكر للحرب.نزار صاغيّة *

تضمّن العدد 41 من الجريدة الرسمية بعض المراسيم التي يستشفّ منها أن الأحوال جدّ طبيعية (وهذا ما يتبيّن في الخبرين الأول والثاني أدناه). كما تجدر الإشارة إلى صدور النظام الداخليّ للجنة رقابة شركات الضمان عن وزارة الاقتصاد بعد سبع سنوات من تكليفها بذلك (الخبر الثّالث)! وهذا ما سأعرضه في الأخبار الثلاثة أدناه.
الخبر الأول: نقل اعتماد من احتياطيّ الموازنة إلى موازنة رئاسة الجمهوريّة:
من المعلوم أن قانون المحاسبة العموميّة يفرض تخصيص موازنة للاحتياطيّ لا تقلّ عن واحد بالمئة من مجموع اعتمادات موازنة الدولة. والهدف من ذلك تمكين الحكومة استخدام هذه الاعتمادات إذا حدث أيّ طارئ من شأنه أن يرتّب مسؤوليّات ماليّة غير مرتقبة على عاتق الدولة.
وعلى هدْي هذه الأصول، اتخذت الحكومة في 14/8/2006 (أي بتاريخ وقف العمليات الحربية) قراراً بنقل اعتمادات بقيمة 540 مليون ليرة لبنانيّة من احتياطي الموازنة، وتحديداً الاحتياطي المخصص للنفقات الطارئة والاستثنائية، إلى موازنة رئاسة الجمهوريّة، وفقاً للآتي: 290 مليون ليرة (إعلانات مطبوعات وعلاقات عامة في الأعياد والتمثيل) و120 مليون ليرة (نفقات تغذية) و80 مليون ليرة (نفقات محروقات وزيوت للمولدات) و50 مليون ليرة (نفقات صيانة وسائل النقل).
واللافت في الخبر ليس نقل اعتمادات الاحتياطيّ (وهو أمر قانونيّ ومألوف)، إنّما وجهة الإنفاق في توقيت مماثل. فأيّاً تكن نيّات الحكومة، يظهر هذا القرار ـــ بتزامنه مع وقف العمليات الحربية ـــ بمثابة إعلان بأنّ نفقات الرئاسة المبيّنة أعلاه (بما فيها من أعياد وتمثيل) أكثر إلحاحاً من حاجات الإغاثة والإعمار. ولا يُردّ على ذلك بأن لا نيّة أبداً للمفاضلة وأنّ الأمرين منفصلان، فالمفاضلة في شأن مماثل وفي يوم مماثل تفرض ذاتها كنور الشمس في ذهن أي نبيه عاقل. كما لا يُردّ بأن النّفقات أعطيت للرئاسة تمكيناً لها من أداء دور في معالجة ذيول الحرب كاستقبال وفود إلخ... ما دامت الكياسة تقضي في ظروف مماثلة التزام التقشّف، تماماً كما يفترض بأي مجتمع يخرج من حرب، أقلّه تأكيداً على مصداقية حاجتنا إلى المساعدة. وللسبب نفسه، لا يُردّ بأن الإغاثة والإعمار يتطلّبان مبالغ طائلة لا مجال لتأمينها بواسطة احتياطي الموازنة، إنّما بواسطة «هبات» الخارج، ولا سيّما أنّ واجب الدولة يقضي باستنفاد ما لدينا من فائض (أياً كان مبلغه) قبل اللجوء إلى الخارجالخبر الثاني: قرار إجراء دورة استثنائيّة للامتحانات الرسميّة:
من أهم تحديّات الحرب بالنسبة إلى المرشّحين لنيل الشهادات الرسميّة في المتوسّط (بروفيه) والثّانوي (بكالوريا)، ممّن يجوز لهم قانوناً المشاركة في الدورة الاستثنائية (الثانية) وأبرزهم الذين رسبوا بمعدل لا يقل عن 8/20 في الدورة الأولى، هو قدرتهم على التحضير الجدي لها ولا سيّما في المناطق التي تعرّضت للتهجير والتدمير وبالنسبة إلى الذين تطوعوا في المقاومة أو في أعمال الإعمار. وعلى خلفية هذه الظروف، سرت شائعات عن احتمال إلغاء هذه الدورة مع إعطاء افادات بالنجاح شبيهة بالافادات التي عرفها اللبنانيون في حقبة الحرب في السبعينيات والثمانينيات.
وعلى هذه الخلفيّة، جاء مرسوم الإعلان عن إجراء الدورة الاستثنائية بمثابة استبعاد لهذا الطريق. لا بل إن المرسوم ذهب أبعد من ذلك بحيث توسّع في تحديد فئات الأشخاص الذين يحق لهم الترشح فيها. فإذا كان المرسوم التنظيميّ للشهادات الرسميّة حصر حقّ المشاركة في الدورة الاستثنائية بمن نال معدّلاً عامّاً في الدورة العاديّة لا يتدنّى عن 8/20 أو بمن تغيّب تماماً عن الامتحانات (وهم قلة)، فإنّ المرسوم خالفه فاتحاً باب المشاركة فيها لفئات أخرى بحيث شمل الراسبين في الدورة العاديّة أيّا كان معدّل علاماتهم (أي حتّى لو حصلوا على أقلّ من 8/20)، وأيضاً الذين تقدّموا أو يتقدّمون بطلبات لتسوية أوضاعهم الدراسيّة. وتقترن بموافقة وزير التربية والتعليم العالي!
اللافت في الأمر إذاً أنّ المرسوم أغفل تماماً العوائق والأضرار المتّصلة بالحرب التي قد تعترض نسبة كبيرة من المرشّحين على نحو يخلّ بمبدأ التعادل في الفرص، ليذهب بالمقابل إلى توسيع دائرة المستفيدين من الفرصة الثانية دون مبرّر، ما دامت الدورة الأولى قد جرت في ظروف طبيعيّة. وكأنّما الحكومة تستعيض عن اللاتعادل في فرص النجاح بين المرشّحين بمنح فرص ـــ ولو غير متساوية ـــ للجميع، ربما امتصاصاً للنقمة. وبذلك، آل المرسوم ليس فقط إلى تحييد الحرب ومفاعيلها، إنّما أيضاً إلى إيجاد ظروف (ضرورة التحضير للدورة الثانية) من شأنها تحييد عدد كبير من الشباب عن عملية الاعمار، بما يتعارض حكماً مع منطق المصلحة العامة.
ولكانت أحسنت الحكومة، بتقديري، لو أنّها قرّرت إنجاح الذين يجوز لهم قانوناً تقديم دورة ثانية، ما دام رسوبهم بمعدل لا يتدّنى عن 8/20 يدلّ على مستوى معيّن من التحصيل العلمي، وتكريسه بشهادة ـــ ولو دون دورة ثانية ـــ أكثر مشروعيّة من تعريضهم لدورة يصعب بنتيجتها قياس مستوياتهم العلمية. وللحكومة في موازاة ذلك، أن تقرّر دورة استثنائية لسائر الفئات مما يستثنيها القانون أساساً منها مع مراعاة الظروف الحاضرة. وهذا ما عبّر عنه في 28 آب (أي بعد أيام من صدور المرسوم) بشكل أو بآخر عشرات الطلاب الثانويين في النبطية، مطالبين وزير التربية بأن يكون لديه نظرة خاصّة وإنسانيّة لحال الطلبة (ولا سيما الذين دمرت منازلهم أو هجّروا أو أصيبوا)، توصلاً الى خفض معدلات النجاح أو إيجاد حلّ لهذه الامتحانات.
الخبر الثالث: إصدار النظام الداخلي للجنة مراقبة شركات الضمان:
إلى ذلك، تضمّن العدد قراراً صادراً بتاريخ 8 آب عن وزير الاقتصاد بوضع النظام الداخليّ للجنة مراقبة شركات الضمان. وأوّل ما يُلحظ في هذا المجال هو أنّ إصدار النظام حصل بعد سبع سنوات من صدور القانون الداعي إلى وضعه كجزء من تنظيم شركات الضمان. وهذا الأمر يشكّل في الواقع دليلاً دامغاً جداً على ثقل العجلة الرسميّة: فالمطلوب من العجلة أن تدور ـــ ليس بين جهاز وآخر ـــ إنّما داخل وزارة واحدة يفترض بها أن تكون الأكثر ديناميّة، وأن تدور في مجال حيويّ ليس فقط على الصعيد الاقتصاديّ، إنما خصوصاً على الصعيد الاجتماعيّ تأميناً لحقوق المضمونين ـــ في أرواحهم وأموالهم ـــ ضدّ تحايل شركات الضمان أو سوء تدبيرها. وإذ لم يذكر العدد الحرب ببنت شفة، فإنّ صدوره خلالها يطرح أسئلة بشأن مدى تأثيرها على إصداره. فهل ذكّرت الحرب، بما هي أكثر المخاطر تعرضاً للأرواح والأموال، بأهميّة هذا القطاع، أم إنّها بيّنت ثغراً معيّنة في هذا المجال فسعت الوزارة إلى استدراكها؟
أيّا يكن، ودون الغوص في تفاصيل النظام الداخلي، يسجّل ضده أنه جزّأ لجنة المراقبة الى أربع وحدات (ماليّة، قانونية، سلوكيات، ادارية) لكل منها صلاحيات، ويديرها أحد المراقبين الأربعة (المنصوص عليهم قانونا) تحت اشراف رئيس لجنة الرّقابة الذي يخضع بدوره لوزير الاقتصاد. فبفعل «تجزئة عمل اللجنة في وحدات»، آل النظام إلى تعزيز الهرمية، لا سيما أنّه خلا من أي آلية تسمح بالتفاعل بين المراقبين، أو باتخاذ القرارات بأكثرية آرائهم. لا بل أنّ النظام مضى في عملية التجزئة إلى حدّ تقسيم القيم إلى ثلاث فئات، تتولّى كلّ وحدة فئة منها. فإذا تناولت الوحدة المالية مدى التزام الشركات بمبادئ الحوكمة بما هو تكريس قانوني- نادر وقد يكون الوحيد من نوعه حتى الآن- للشعار الذي يحبّذه البنك الدوليّ (good governance)، فانّ الوحدة القانونيّة تولّت مدى الالتزام بقيم القانون فيما تولّت وحدة السلوكيّات مراقبة مدى الالتزام بمبادئ وأصول الضمان!! وعدا عن أن هذه العبارات متداخلة في ما بينها، الأمر الذي سيسبّب بلبلة في الصلاحيات، فإنّها «مطّاطة» يمكن تأويلها بألف طريقة، بقدر ما يمكن تفريغها من أي مضمون. وبذهابها هذا المنحى، يخشى أن تكون الوزارة قد أضاعت- بعد سبع سنوات من التخمير- فرصة وضع قواعد من شأنها تفعيل لجنة الرقابة، صوناً لحقوق المضمونين في مواجهة أيّ تعسف أو سوء إدارة في مواجهة شركات باتت ذات قوة وجاه.
* محامٍ