«لسوء الحظ، هنالك تشابه بين وضع سوريا الحالي ووضعها في نهاية العصر البرونزي مع سقوط الإمبراطورية الآكادية». هذه هي الخلاصة التي توصل إليها علماء الآثار في جامعة شفيلد البريطانية، بعد أن درسوا طرق التجارة والتواصل الاجتماعي في تل موزان الواقع في الحسكة في سوريا.
يضم تل الموزان مدينة أوركاش التي كانت من أكبر المدن – الدويلات في الفترة الآكادية، والتي كان نموها الاقتصادي هائلاً، بسبب قوة حركة التجارة بين الداخل والساحل. كذلك عرفت منطقة الحسكة والداخل السوري نمواً كبيراً في فترة الاستقرار هذه، فباتت مركز سلطة اقتصادية وسياسية مهمة جداً للمنطقة. ومع بداية سنة 2150 قبل الميلاد بدأت العمليات العسكرية ضد السلطة الآكادية، وأنهى العنف الدائر الدور الاقتصادي المركزي للمنطقة، التي عرفت لقرون طويلة من بعدها فترة ركود كبيرة. ودرس الدكتور اللهام فرام في جامعة شفيلد، تغير السياسات على الشعوب في هذه المنطقة، وتأقلم هذه الأخيرة مع الأوضاع والعنف الدائر. يوضح فرام الدافع من وراء البحث «منذ 4200 سنة، كانت بلاد ما بين النهرين، تمر بفترة انتقالية تشابك فيها التصحر والجفاف والهجرة إلى المدن، بانهيار الإمبراطورية الآكادية وسيادة الفلتان الأمني. وضع يشبه إلى حدٍّ كبير ما تعيشه سوريا اليوم، فهناك مشكلة النمو الديموغرافي الهائل، الذي كان سببه الازدهار الاقتصادي والأمان، ثم هناك مشكلة الزراعة التي كانت ولا تزال تعتمد أساساً على مياه الأمطار بدل الري، فأتى التغير المناخي ليؤثر سلباً عليها. فشح المياه دفع المزارعين إلى الهجرة إلى المدينة بحثاً عن عمل، ما ولّد مشاكل تتفاقم بسرعة مع العنف الدائر بسبب تغير السلطات. وهذه الصورة تعرفها سوريا حالياً، وعاشتها سابقاً. لكن كيف تتأقلم الشعوب مع هذا الواقع؟ سؤال يمكن الإجابة عنه من خلال دراسة الشبكات التجارية والاجتماعية التي كانت مرتبطة بهذه المدن، قبل هذا الوضع وبعده، لمعرفة التغيرات التي عاشها سكان المنطقة سابقاً. واختير الزجاج البركاني الأسود الذي يستورَد لفهم أوجه هذه الأزمة». الزجاج البركاني ناعم، صلب وأكثر حدة من أي أداة مخصصة للجراحة، ما جعله من المواد الخام المطلوبة من الإنسان، في كافة الأزمنة لصقل الأدوات. واستُخدمت هذه الأدوات في جميع أنحاء الشرق الأوسط القديم، لآلاف السنين، حتى بعد اكتشاف المعادن، ولا تزال شفرات الزجاج البركاني، تستعمل كشفرات لمشارط في إجراءات طبية معينة.
اكتشف علماء جامعة شفيلد أن الزجاج البركاني في أوركيش، استُخرج من ستة براكين مختلفة قبل الأزمة، ما يشير إلى أنها مدينة متنوعة الزوار، وذات مسارات تجارية متنوعة. لكن أثناء الأزمة، جاء الزجاج البركاني من مصدرين قريبين فقط، ما يشير إلى انهيار الشبكة الاجتماعية والتجارية، التي كانت تربطها سابقاً. وبقيت الحال هذه سائدة لثلاثة قرون حتى عاد الزجاج البركاني المتنوع الأصول إلى أوركش. ويشرح فرام إلى «أن أحد التحاليل المقنعة للنتائج التي توصلنا إليها، هو أن التأثير السياسي الآكادي كان يحدد الاقتصاد المحلي للمدن. فربما كان دور مدينة أوركيش، الواقعة بمحاذاة جبال طوروس، يكمن في توفير المعادن من الجبال القريبة للسلطة القائمة. لكن مع التحولات المناخية ونهاية الإمبراطورية ودخول المنطقة في فترات صراع وعنيفة طويلة، اضطر السكان إلى إعادة تركيز اقتصادهم على الإنتاج والاستهلاك المحلي لتغطية احتياجاتهم، بدل الانخراط في التجارة المتخصصة التي تمتد على مسافات طويلة».
يشرح الفريق العامل في هذه الدراسة أن الهدف من هذا العمل ليس التقليل من خطورة أو صعوبة الوضع الحالي الذي تعيشه سوريا اليوم.
«من خلال رسم أوجه التشابه مع الوضع الحالي في سوريا، لا نقلل من أهمية ما يحصل»، يوضح فرام، «بل على العكس، الوضع في سوريا محزن ومرعب. كعالم آثار، لا يمكنني القيام بشيء للمساعدة. لكن الذين درسوا الماضي هم في وضع فريد للنظر في ماذا يمكن أن يحدث بعد انتهاء الأزمة الحالية. وكيف يحافظ السكان على أنفسهم عندما تنهار البنى التحتية؟ وهل سينتقلون إلى منطقة أخرى؟ من المعروف أن الجفاف يزيد من الحروب، فهل سيتحول القتال إلى الموارد المائية الشحيحة؟ هذه عينة من نوع المساهمة التي يمكن أن يقدمها علم الآثار من أجل تحسين المستقبل».