يُخطئ من يظن أن الأنظمة العربية التي سبقت الثورات في مصر وتونس وليبيا وغيرها كانت تمارس سياسات اقتصادية رأسمالية أو اشتراكية. ابتكرت هذه الأنظمة التي احتكرت الحكم بعد انسحاب القوى الاستعمارية من المنطقة وانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر نُظُماً اقتصادية متشابهة إلى حد ما، يميزها بالأخص دعم الدولة لبعض السلع الأساسية، ولا سيّما المحروقات والغذاء بهدف فرض عقد اجتماعي يرتكز على «شراء» الطاعة من الشعب. طبعاً، كان لهذه الأنظمة مخالب أمنية ساهمت في «إقناع» الشعوب بالعقد الاجتماعي الأحادي: الخبز المدعوم كبديل من الحرية.
جاءت التطورات الاقتصادية العالمية وعولمة الاقتصاد لتهز هذه المعادلة. فالنظام العالمي السائد لا يقبل بدعم الفقراء من أموال الدولة، مفضلاً دعم الأثرياء الذين أصبحوا الحكام الفعليين في العالم الجديد. فرض النظام العالمي الجديد رؤيته الاقتصادية على الأنظمة الأمنية العربية، رغم محاولات هذه الأنظمة إقناع أسيادها بأن هذه المقاربة ستقضي عليها. قامت الثورات وتغيرت الأنظمة وزالت الدولة الأمنية وانتشرت الديموقراطية في عالمنا، ووجد الحكام الجدد أنفسهم أمام المعضلة نفسها: ماذا عن دعم السلع والغذاء في زمن غلاء المعيشة والتضخم؟ هذا هو السؤال الذي طرحه ماتيو بران في ورقة تحليلية صدرت أخيراً عن المركز الدولي للدراسات الزراعية المتوسطية (CIHEAM)، والذي يسرد فيها تاريخ الدعم في البلدان العربية ويضع بعض التصورات للمستقبل. لكن الصورة لا تزال غير واضحة، وهناك تساؤلات عما إذا كان الحكام الجدد يجيدون السباحة عكس التيار النيو ليبرالي. لكن لا يبدو مما ظهر حتى الآن أن الأنظمة العربية التي أتت بها الثورات ستعتنق سياسات اقتصادية تختلف بالصميم عن تلك التي كانت سائدة في زمن أسلافها.