عكار | حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت العونة أمراً عادياً وواجباً في بناء المنازل وحصاد القمح وسائر الأعمال في أكروم، تماماً كما هي حال مشهد الدابة محملة بـ«الرواة» لجلب مياه الشفة، وكذا أحاديث الصبية والصبايا على طريق نبع السبع (مصدر مياه الشفة الوحيد). لم يكن الشباب الأكرومي بحاجة إلى استقراء التاريخ عبر كبار السن لاستذكار حضارة الأجداد، فلا تزال الذاكرة حية وقريبة. وإن كان «النمط الحضاري» قد اجتاحها، فإنها لم تشطب عاداتها وتقاليدها القديمة، وإن اختلفت بعض الشيء في بعض النواحي. فالسهرات التي كان الشباب يقضونها بين متابعة برامج ومسلسلات التلفزيون السوري، الذي كانوا يسمونه بمحطة «غصباً عنك» لعدم وجود أي محطة أخرى، ولعب الورق أو سهرات الدردشة، وخصوصاً في فصل الشتاء، تغيرت. ولم تعد قناة «غصباً عنك» هي الوحيدة. ولم تلبث، في سنوات قليلة، أن أصبحت في قلب «الحضارة» التي دكت معظم مقومات الحياة التقليدية، فاختفى التنور والعونة، ومعها تحولت أساليب الحياة بما فيها أشكال إحياء المناسبات الجامعة في الأتراح والأفراح. وعلى امتداد العقد الأول من الألفية الثالثة، راحت تتراجع معالم العرس الأكرومي التقليدي، بعدما كان هذا العرس يجمع أبناء قرى الجبل السبع إعداداً واحتفالاً... وتبادلاً للنقوط (مبالغ مالية تقدم للعروسين بدل الهدايا العينية)، قبل أن يبدأ تحوله التدريجي نحو أشكال «عصرية» من خلال الاحتفال به في المطاعم والمقاهي الموجودة خارج جبل أكروم. غير أن كل هذه التغيرات لم تكن لتلغي «الحنين» إلى ذاك العرس القديم. فمع بدء شعور الأكرومي باستنزاف قدراته المادية بفضل منجزات الحضارة، استعاد أهل أكروم تراثهم، فأسس أحد أبناء الجبل، صبحي يوسف، مطعماً، من ضمن اختصاصه تقديم طعام أكرومي جاهز للأعراس. هكذا، استعاد العرس الأكرومي جزءاً كبيراً من ألقه، ليصبح «نصف تقليدي ونصف عصري».ومن بين الذين حافظوا على تقليدية العرس ياسين الأدرع الذي زوّج ابنه صيف العام الماضي، فتداعى أهل العريس وأبناء عمومته ليلة العرس لإعداد وليمة يفترض أنها تكفي نحو 1500 شخص بعدما دعوا عموم أهالي قرى أكروم السبع عبر المساجد. في ذلك العرس، ذبح أهل العريس 40 رأساً من الماعز، وأعدّوا مناسف الأرز والبرغل لوليمة المساء. وبعد الرقص والعتابا حتى ساعات الفجر الأولى، يرحل «العراسة»، ليعودوا ويجتمعوا عند السابعة صباحاً لتناول فطور العرس المكوّن من «القصبة السوداء» مقلية بالسمن البلدي، ومعها الجبنة واللبنة البلديتان والخضار، آخذين في الحسبان أنه بحلول موعد الغداء، على هؤلاء أن يكونوا مستنفرين لاستقبال الضيوف والحرص على إكرامهم فرداً فرداً، لأن إهمال أي منهم يحتسب نقيصة بحق أهل العريس. فترة توافد المدعوين حرجة جداً بالنسبة إلى أهل العريس؛ إذ إن نقص العدد كثيراً عن المتوقع ولم تمتلئ المقاعد المخصصة للمدعوين، فإن ذلك يظهر أن أصحاب الدعوة بالغوا في تقدير مكانتهم الاجتماعية، تماماً كما هو الأمر إن لم يتمكنوا من استيعاب الوافدين. لكن في الحالة الثانية، ثمة آلية لحصر مفاعيل النقص؛ إذ يتريث في الجلوس أبناء العائلة أولاً، وأبناء القرية ثانياً، بانتظار التأكد من استيعاب القادمين من سائر قرى الجبل ومن بعض المناطق البعيدة. عقب اكتمال العدد، يتوجه وفد من أعيان عائلة العريس، ومعهم وفد من المدعوين لإحضار العروس على وقع دق الطبل والزغاريد التي تختلط بمثيلها في منزل العروس. وهناك يدخل العريس مع أهله ليلتقطون الصور إلى جانب العروس وأهلها، ثم يعودون إلى منزل العريس بجلبة يمتد صخبها إلى أقاصي القرية. فور عودتهما يجلس العروسان على مقعدين مميزين لتقبل التهنئة، وعلى بعد بضعة مقاعد يجلس أحد أقرباء العريس وبيده كيس لوضع النقود (النقوط) ودفتر لتسجيل الأسماء والمبالغ. فـ«النقوط»، يقول ياسين الأدرع، «دين ووفا»، وهي «نوع من ادخار للأموال في القجة، يقوم بتسليفها العريس وأهله لمن سبقوه من المتزوجين، ثم يستعيدها يوم عرسه، وتكون كفيلة بتسديد كلفة العرس على وجه التقدير»، يضيف. وقد افتتحت الأعراس صيف هذا العام، يقول خالد الأدرع، بقيمة عشرين ألف ليرة للنقوط. وإذ بلغ عدد أعراس شهر تموز في كفرتون وحدها 15 عرساً، فهذا يعني، يضيف خالد ممازحاً، أن أكثر من نصف الراتب «طار في تنقيط العرسان».
يذكر أن متوسط عدد الأعراس في قرى جبل أكروم السبع يقارب 150 عرساً كل عام، تجري جميعها في فصل الصيف.