«إن الفائدة المركبة هي أعظم قوة في الكون»ألبرت آينشتاين

مما لا شك فيه، وبغض النظر عن مصدر التحليل أو الإنذار، سواء كان من صندوق النقد الدولي أو من تصرّفات المصرف المركزي ووزارة المالية والمصارف، غير المتزنة أو القاسية، كرفع الفوائد في شكل كبير والانفتاح على الأسواق الخارجية واستعمال «الهندسات المالية» أو وقف البرامج الإقراضية. فإن الأمور على المستوى المالي تتجه إلى الأسوأ في لبنان. وهذا الأمر في ظل عدم ظهور بوادر عودة للانتعاش الاقتصادي، وبالتالي استمرار لبنان في حالة الركود الطويل الأمد، سيؤدي إلى ارتفاع عبء الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي؛ وكما ذكرنا سابقاً، من المتوقع أن يتخطّى لبنان اليونان ليقف خلف اليابان في هذا المجال. السؤال الذي يطرح نفسه بالطبع الآن وبإلحاح: ما العمل؟ فبعد كل هذه السنين من تراكم الدين واتباع الحكومات المتعاقبة سياسات غير ناجحة في التعاطي مع هذه المعضلة تعتمد إمّا على الوصفات الجاهزة (الحديث الدائم عن خفض وترشيد الإنفاق ومحاربة الفساد والهدر وإلى ما هنالك من أوهام غير علمية)، وإما على الخارج عبر إجراءات الإنقاذ المالي كباريس 2 الذي جاء عام 2002 في مفصل زمني، حيث الاقتصاد كان على وشك أن يُطاح به بأزمة نقدية عنيفة.

لبنان واليابان... واليونان؟
سؤال أول، ربما الإجابة عنه تعطينا بعض الإضاءة على ما العمل في لبنان: ما هو الخيط الأساسي الذي يجمع بين هذه الدول الثلاث، المختلفة في درجات تطوّرها الاقتصادي وربما أيضاً في أسباب انفجار الدين العام فيها، ويجعلها تستمر في احتلال هذه المراتب العليا (السلبية طبعاً) في التصنيف الدولي، كما هي، إما داخل أو على حافة دخول فخ الدين الذي لا خروج منه؟ السبب الأولي أن هذه الدول الثلاث لا يمكنها استخدام سلاح التضخم لخفض قيمة الدين العام، وهو الأمر المُتاح للدول عندما تواجه هكذا معضلة، فهي إما سياساتها النقدية مكبّلة (اليونان في انتمائها لمنطقة اليورو؛ لبنان بسبب تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي) أو أنها تعيش حالة انكماش أسعار (اليابان منذ تسعينيات القرن الماضي!).
إذا كانت اليونان لديها دائنون خارجيون مستعدون لمسامحتها في جزء من دينها، فلبنان لا يملك هذه «الكمالية»


أمر آخر في المقارنة يسلّط الضوء على المأزق الذي نحن فيه. اليابان دينها العام بمجمله داخلي وبالين الياباني، ولدى البنك المركزي الياباني القدرة على التحكّم بمعدل الفائدة ما يجعل الدين الياباني أقل خطورة من الدين في اليونان وبالطبع في لبنان. فنحن بدأنا رحلة التوجه أكثر وأكثر إلى الدين الخارجي بالإضافة إلى الدين بالعملات الأجنبية، وفي الوقت نفسه، ليست لدينا المقدرة على التحكّم بالفائدة. ومعدل الفائدة هنا يلعب دوراً محدداً. فبينما الدين العام في اليابان بلغ 15 مرة ضعف الإيرادات الضريبية في عام 2016، بلغ في لبنان 10 مرات، ما يشير إلى أن الوضع في لبنان أفضل. لكن إذا قارنا الفائدة على الدين العام في اليابان التي بلغت آنذاك 1.1% فقط، بينما الفائدة في لبنان بلغت 6.5%، يمكننا أن نرى أن درجة التسارع في نمو الدين هي أكبر بكثير جداً في لبنان لأن الفائدة المركّبة (compounded interest) كفيلة بأن تعمل على المدى الطويل على جعلنا نسبق اليابان أيضاً.

أسلحة متعدّدة ولكن غير متوفرة!
طبعاً الفائدة ليست هي المحدّد الوحيد لنمو الدين العام إلى الناتج المحلي، فالعوامل الأخرى هي أيضاً مهمّة ألا وهي: معدل نمو الناتج، والتضخم، والفائض الأولي لموازنة الدولة، وكل هذه العوامل تشكّل أساس أي نموذج لقياس استدامة الدين العام أو عدمه. ولكن لبنان الآن في مرحلة لا يمكنه التحكم بأي من هذه العوامل. أولاً، لا يمكن استعمال التضخم فهذا شبه مستحيل في ظل التثبيت النقدي، كما أننا كنا في عام 2015 في حالة انكماش أسعار؛ ثانياً، لا يمكن الاعتماد على النمو أيضاً، فمهما كثر الحديث السطحي عن «تكبير حجم الاقتصاد»، فإن لبنان اليوم يعيش مرحلة ركود طويلة الأمد، كما أن النمو الاقتصادي اتسم منذ 1992 بالتقلّبات الحادة. ثالثاً، الفوائد إلى ارتفاع صاروخي ومن شبه المستحيلات التحكّم بها في ظل التثبيت والحاجة إلى الرأسمال الخارجي وانتهاء بعهد الإنقاذ المالي ورمزه الأساسي باريس 2. أخيراً، لبنان في ظل ارتفاع الفوائد وانخفاض النمو ورفض الهيئات الاقتصادية زيادة الضرائب على الثروة والأرباح لا يمكن أن يستعمل «استراتيجية الخزينة» لوقف تسارع الدين العام، وبالتالي فإن الاعتماد على الفوائض الأولية أمر غير واقعي، لأنه إما لا يمكن تحقيقه وإذا تحقق فهو غير ذي فعالية في وجه طوفان العوامل الأخرى.

شايلوك يعيد جزءاً مما أخذه؟
إن الحل الجذري لهذه المعضلة تتطلّب استغلالاً ثم تفكيكاً للنموذج الريعي، وكنت طرحت ذلك سابقاً في «التجديد في مصرف لبنان نهايته التغيير-3: استغلال النموذج لإنهاءه»، إذ من المفضل استعمال «نظم الأسعار» بدلاً من ما هو ممكن حالياً في ظل عدم إمكانية التحكّم بالعوامل أعلاه. اليوم هناك حل وحيد إضافي متاح وهو التحكّم بأصل الدين أي خفضه قسرياً. فمثلاً، اليونان وبعد كل إجراءات الخصخصة والتقشّف والتي أوصلت إلى أن تكون نسبة دينها 179% من الناتج المحلي، هي بحاجة إلى إعفاء من جزء من ديونها إذا أرادت العودة إلى طريق الاستدامة وإذا لم تكن تريد أن «تحوّل عبء الدين العام إلى أجيال عدة قادمة» وفق دراسة لمجموعة من الاقتصاديين الأميركيين والأوروبيين. نحن اليوم بحاجة إلى أمر مماثل، إذ نحن نقترب من نسب اليونان، ووقعنا في فخّ الدين بحيث نستدين كل سنة لندفع الفائدة عليه، ونسبة تسارع الدين أي الفائدة إلى ارتفاع.
لكن إذا كانت اليونان لديها دائنون خارجيون مؤسساتيون مستعدون لمسامحتها في جزء من دينها، فلبنان لا يملك هذه «الكمالية» إذ إن الأكثرية الساحقة من الدين هي إما داخلية أو سوقية. وهنا يأتي دور حملة سندات الخزينة اللبنانية واليوروبوندز المؤسساتيين، أي المصرف المركزي والمصارف اللبنانية، إذ عليها أن تلعب أخيراً دورها في حلّ هذه المعضلة التي كانت هي الأساسية في صنعها. هذه الإجراءت تتضمّن (الأرقام فقط مؤشرية أو indicative) أولاً، خفض قيمة الدين التي تحملها المصارف اللبنانية بقيمة تساوي تقريباً الأرباح الاستثنائية التي حصلت عليها في «الهندسة المالية» عام 2016 أي بـ6 مليار دولار.

إما أن يتم استعمال النظام الضريبي لإنهاء الريع والخروج من فخ الدين، وإما التدهور والموت البطيء

وتوزّع هذه التنزيلات على قيم السندات على مختلف المصارف بحسب معيار يأخذ في الاعتبار نسب القروض المتعثرة أصلاً لدى كل مصرف ونسب الأرباح لديه وقيم الأصول التي يمكن تسييلها والسوبر عوائد التي حصل عليها خصوصاً في التسعينيات. ثانياً، تقوم المصارف بالاكتتاب بسندات خزينة بالليرة اللبنانية بقيمة 6 مليارات دولار بفائدة صفر في إعادة لما فعلته في باريس-2. ثالثاً، وكتحفيز للمصارف، يقوم المصرف المركزي بالسماح للمصارف بتحرير بعض من رأسمالها بحيث يخفض تقييم سندات اليوروبوندز وشهادات الإيداع بالدولار لاحتساب متطلبات الرأسمال إلى 20% من قيمتها. رابعاً، يقوم المصرف المركزي بالعودة إلى الاكتتاب بسندات الخزينة اللبنانية بالليرة اللبنانية بنسبة توازي تدفّق ديون باريس 4، بحيث تكون بمثابة طبع كمية من النقد اللبناني توازي كمية العملة الصعبة المتدفقة، ويتم إصدار هذه السندات بمثابة ديون دائمة من دون تاريخ استحقاق (perpetuity) مما لا يرتب أي زيادة على الدين العام اللبناني الإجمالي لأن استدانة الدولة من المصرف المركزي هي شكلية.

الدين ليس حراماً
الدَيْن في حد ذاته ليس أمراً حراماً، والمطلوب ليس محاربته لأنه كذلك، والبعض يرتكب أخطاءً إما إلى اليسار أو إلى اليمين عندما ينظر إليه هكذا. لكن هذه الإجراءات أصبحت ضرورية الآن من أجل وقف ديناميكية تسارع الدين العام إن حصلت على إثره أزمة، أو لم تحصل، ومن أجل أن يدفع الثمن من ربح بدلاً من أن يدفع الجميع الثمن عبر ما يمكن أن يكون «تخصيصاً للمنافع وتشريكاً في الخسائر». طبعاً المدافعون عن مصالح الرأسمال المالي هم كُثر لكن السؤال يبقى: هل يمكننا الاستمرار في ما نحن عليه من دَيْنٍ مقارنة بالاقتصاد الحقيقي ونواجه تبعات «القوة العظمى للفائدة المركبة» وتحمّل الأكلاف المترتبة عليها؟ أم علينا اتخاذ إجراءات جذرية لوقفها؟ فالتاريخ مليء بالحطام الذي خلّفته الأزمات المالية ولبنان مرّ في مثل هذا الخراب في ثمانينيات القرن الماضي، وقد تم تشريك الخسائر آنذاك بحيث كانت الطبقات الوسطى والعاملة وبعض ملاكي الأصول المؤجرة الضحية الأساسية لهذه الأزمة. اليوم علينا أن نختار: إما أن يتم استعمال النظام الضريبي لاستغلال الريع وإنهائه أو يتم استعمال الأدوات القسرية للخروج من فخ الدَيْن ونضع الاقتصاد والمالية العامة على طريق الانتعاش والازدهار. وإما التدهور عبر انفجار كبير؛ أو موت بطيء يدفع ثمنه شباب اليوم كما الأجيال القادمة.