«ليس هناك أي سبب إضافي كي يأخذ المصرف المركزي أوامر السير من تجّار السندات أكثر من أخذها من السياسيين»ألان بلايندر

في مقالتين نشرتا أخيراً في «الإيكونوميست» و «نيويورك تايمز»، هناك إشارة إلى أن ما أُعتبر لسنوات وسنوات أمراً غير قابلٍ للتغيير قد بدأ يتغيّر. فأجيال عدّة من طلّاب الاقتصاد تمّت «أدلجتهم» حول أهمية استقلالية البنوك المركزية عن السياسة. كما لعقود عدّة كانت الحكومات تستمع إلى هذه الأمثولة من دون توقّف من الاقتصاديين ومن صندوق النقد الدولي، وأصبحت هذه الاستقلالية نوعاً من المُسلّمات التي لا يناقشها أحد، كما لا يعرف، في الوقت نفسه، أصلها أحد. وأصبح الترداد الببغائي للأمور، مثل محاربة التضخّم ومكافحة جنوح السياسيين نحو إطلاق التضخّم، الشغل الشاغل للبعض في أي مكان وزمان. طبعاً كلّ هذا كان غطاءً أيديولوجياً يمكن ترجمة بنده الأوّل كالتالي: «محاربة التضخّم» = اتباع سياسات نقدية محافظة ترفع الفوائد وفي النهاية تؤدّي إلى كَسْب رأس المال المالي وحملة السندات أكثر، وتؤدّي إلى أن ينتج الاقتصاد عدداً من الوظائف أقلّ. في هذا الإطار، كانت هذه «الحركة الاستقلالية» التي كان أحد رموزها ما عُرف بـ«طلاق» مصرف إيطاليا من الحكومة الإيطالية في عام 1981، قد استبدلت أهداف النموّ الاقتصادي والتوظيف ليحلّ محلّها أهداف «استقرار الأسعار» أو «استهداف التضخّم»، ونسيت بعض البنوك المركزية دورها القديم وكأنه لم يكن، بل تمّ إلى حدّ كبير «شيطنته» واعتباره مسؤولاً عن الأزمات التي ضربت الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة في سبعينيات القرن الماضي. باختصار كان هذا بعض ما دُوِّنَ في كتاب نعي الكينزية، فكانت ترجمة البند الثاني «عدم إطلاق جنوح السياسيين نحو التضخّم» = كفّ يد الكينزية ويد الأحزاب اليسارية الحاكمة عن التدخّل لمصلحة العمّال والنقابات والأجور والتوظيف وإعادة التوزيع.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

اليوم بدأ التململ من هذه «الاستقلالية»، خصوصاً بعد أن تبيّن خلال أزمة 2008 أن الرأسمالية بحاجة إلى المصارف المركزية التي تتدخّل للإنقاذ المالي ولضخّ النقد، وبحاجة أيضاً إلى الإنفاق الحكومي، وهذه كلّها قد لا تتوافق مع «الاستقلالية». في مقالة «الإيكونوميست» في 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر بعنوان «النقاش حول استقلالية المصرف المركزي تأخّر كثيراً»، يقول الكاتب إن استقلالية البنوك المركزية عنت في التطبيق «أن تملئ مجالسها الحاكمة بالصقور وأن يُتركوا ليفعلوا ما يشاؤون». هذا شهدناه بشكل واسع في تلك الفترة حيث امتلأت المصارف بهؤلاء الصقور الذي لا هدف لهم إلّا اتباع سياسات محافظة مهما كلّف الأمر، وطبّقوا ذلك بعجرفة وبسرّية وفوقية. ولزيادة الطين بلة لم يَقْنَع هؤلاء بتنفيذ وظيفتهم فقط، بل أصبحوا يتدخّلون في السياسات المالية والعامّة أيضاً. أي أن استقلالية البنك المركزي كانت فعلياً استقلاليته عن الحكومات وفي الوقت نفسه كانت تبعية الحكومات له. تقول «الإيكونوميست» في هذا الإطار «أبدى ألان غرينسبان بوضوح تامّ رغبته في أن يعالج بيل كلينتون عجز الميزانية، وسوّق للتخفيضات الضريبية خلال إدارة جورج دبليو بوش. وفي أوروبا أصبح البنك المركزي الأوروبي منخرطاً بعمق في السياسة خلال أزمة منطقة اليورو، ووضع شروطاً على الدعم الطارئ للحكومات المتعثّرة بتبني سياساته المفضّلة».
في هذا الإطار أيضاً، قاربت آناليس رايس، أستاذة الانثروبولوجيا والقانون في جامعة نورثويسترن، في مقالة رأي لها في «نيويورك تايمز»، الجوانب الخفيّة والبعيدة عن الأضواء لهؤلاء المصرفيين المركزيين المتحكّمين بمفاصل المال والنقد حول العالم. فعنوان مقالتها الذي نشر في 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر أيضاً «الحياة السرّية للمصرفيين المركزيين»، كما العنوان الثانوي الذي يقول «هؤلاء المهندسين للاقتصاد العالمي يفتخرون بأنهم لامعون ومترفّعون وعقلانيون. وبعد ذلك يتساءلون لماذا هم ليسوا أكثر شعبية»، هما عنوانان واضحان. كما تستنتج رايس أن العالم يتغيّر «وقد لا يكون متاحاً لهذه الحرفة السرّية، والتي تقوم بعملها بشكل غير نظامي، أن تستمرّ في تقاليدها في عالم يطالب بالمزيد من الشفافية والمحاسبة».
أمّا في لبنان، طبعاً قصة البنك المركزي طويلة منذ بدء أعماله في عام 1964، وخضوع ظروف إنشائه وقوانينه إلى رغبات جمعيّة المصارف اللبنانية. لن أدخل في الماضي حتى القريب منه فهو معروف. لكن سأتطرّق إلى بعض الأمور في ما خصّ هذه «الاستقلالية».
أوّلاً، المصرف المركزي مستقلّ وغير مستقلّ في الوقت نفسه، بسبب طبيعة الاقتصاد السياسي اللبناني، الذي بُني عليه النموذج الاقتصادي لما بعد الحرب في تلازم المسارات الثلاثة: الدولة والمصرف المركزي والمصارف التجارية. كما أن استمرار الاقتصاد اللبناني في حالة «أزمة دائمة وراء الأبواب» منذ عام 1997 وحتّى الآن جعلت من استقلاليته الفعلية تعني انهيار المصارف والدولة، لذلك ظلّ يكتتب بسندات الخزينة للحفاظ على هذه الترويكا وعلى الاستقرار السياسي لنظام الطائف. إذ لا خلاف أيديولوجي بين المصرف والحكومات المتعاقبة؛ فلم يحصل صراع مثلاً بين حكومة تريد النموّ ورفع الأجور وزيادة التوظيف وإقامة صناعة تصديرية أو سياسة صناعية، وبين مصرف مركزي يريد الحفاظ على استقرار الأسعار وسعر الصرف. كلّ هذه الأمور لم تكن كذلك، ولا مرّة، منذ عام 1993 حتّى الآن.
ثانياً، في الفترة الأخيرة أصبح من الواضح من يستفيد من سياسات المصرف المركزي؛ فالهندسات المالية التي أطلقها من أجل إيجاد حلّ مؤقّت لمشكلة عجز ميزان المدفوعات عبر اجتذاب رساميل من الخارج أضافت المليارات من الدولارات إلى أرباح المصارف وإلى كبار المودعين، كما أن انفجار ميزانيته في السنوات الأخيرة والتي هي كناية عن ودائع للمصارف لديه بفوائد مرتفعة تفعل الشيء نفسه؛ وهنا مقارنة مع الولايات المتّحدة ستلقي الضوء على هذا الأمر. في أميركا يبلغ الاحتياطي الفائض الموضوع من المصارف لدى الاحتياطي الفيدرالي حوالى 10% من الناتج المحلّي والفائدة تبلغ 2.2% وهذا يعني أن المصارف تحصل سنوياً على 40 مليار دولار من الاحتياطي في مقابل أرباح تساوي حوالى 240 مليار دولار. في لبنان، يبلغ الاحتياطي الفائض للمصارف لدى المصرف المركزي أكثر من 200% من الناتج المحلّي بمعدّل فائدة أعلى بكثير من 2.2% وتحصل المصارف بموجبها على حوالى 8 مليار دولار سنوياً! فإذا كان هناك في أميركا انتقاد للاحتياطي الفيدرالي في هذا المجال بأنه يدعم أرباح المصارف بهذه السياسة فما القول في لبنان إذاً؟
ثالثاً، مقالة «الإيكونوميست» دعت إلى إعادة النظر باستقلالية المصارف بسبب الفوائد المتدنية جدّاً في الدول المتقدّمة. ففي هذه الحالة لا تستطيع المصارف المركزية أن تتصرّف وحدها لأن هذه البيئة تنزع سلاح الفائدة منها. في لبنان، العكس صحيح. فمصرف لبنان أكد استقلاليّته هنا وأساء استعمال أسلحة الفائدة الفعّالة جدّاً (التي تكاد تصبح أسلحة دمار شامل) ولذلك علينا نزع «الاستقلالية» عنه في هذا المجال والتي أدّت إلى انفجار الدين العامّ. فالمصرف المركزي يلقي بذلك بكلفة كبيرة على الدولة والمواطنين؛ والحكومات المتعاقبة لم تلتفت إلى ذلك، إلّا قليلاً في عهد حكومة الحصّ بين عامي 1998 و2000، لأنها لم تكن مهتمة بالاقتصاد الحقيقي بل بالحفاظ على نفسها وعلى قنوات التوزيع لنظام الطائف.
رابعاً، إن سياسة المصرف أدّت إلى أن يصبح لبنان معتمداً على عمليات الإنقاذ من الخارج في باريس 2 و3 و4 وقبلها منذ 1997 عبر الودائع الأجنبية مباشرة لدى مصرف لبنان، مما يلقي بظلال من الشكّ على فعالية المصرف وسياساته وقدرته، فهي أدّت إلى حاجة مُزمنة إلى تدفُق الرساميل من الخارج وعند كلّ توقّف أو تراجع يذهب لبنان إلى طلب المساعدة من الخارج. إذاً هذه «الاستقلالية» أدّت إلى اعتماد مُزمن للإثنين على الدول الأجنبية.
خامساً، إن المصرف يحجب معلومات مهمّة مثل صافي الاحتياطي، أهداف سياساته، أبحاثه، وحتى المؤشّر حول الوضع الاقتصادي الذي يصدره لا منهجية واضحة له. كما أن المصرف المركزي يجتمع دورياً مع المصارف التجارية وفي الفترة الأخيرة أعلن عن رغبته في إجراءات ضريبية بُعَيْد اجتماع الحاكم مع بعض النواب. في كلتا الحالتين يشكّل هذا الأمر خرقاً لهذه «الاستقلالية» عبر إمّا تدخّل في الشأن العامّ أو انصياع لرغبات القطاع الخاصّ.
طرح ألان بلايندر، أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون ونائب حاكم الاحتياطي الفيدرالي في عهد كلينتون، والذي اصطدم خلال تولّيه هذا المنصب مع آلان غرينسبان بسبب سياسات الأخير، أن استقلالية المصارف المركزية يجب أن تكون استقلالاً عن تجّار السندات أو الأسواق المالية بالمقدار نفسه لاستقلاله عن السياسيين. وهذا طبعاً أمر لم تأخذه في الاعتبار النظريات الحديثة التي ركّزت على الاستقلال الثاني، من دون الالتفات للأوّل، لأن هدفها الأوّل والوحيد كان إنهاء المرحلة الكينزية وإعطاء صفة العلميّة على أمر هو بالتأكيد غير ذلك. وهنا يمكننا القول إن هناك لربّما إيجابية وحيدة في سياسات مصرف لبنان منذ 1993 وحتّى اليوم، فمع مرور الوقت أصبح الجميع يُدرك أن خلف هذه «التقنية» المُصطنعة و«الاستقلالية» ما هو إلّا مصرف مركزي يخدم مصالح المصارف وحملة السندات والمودعين الكبار وأصحاب وتجّار العقار وأيضاً آلية التوزيع لنظام الطائف. إذاً الجواب على مقولة ألان بلايندر واضحة في لبنان؛ إنها المصالح التي تدفعه إلى أن يأخذ أوامر السير من الاثنين معاً: من المصارف ومن السياسيين!