«هو يُصبح ضحية نظرته إلى العالم، فهو المهرّج الجدّي الذي لا يرى بعد الآن تاريخ العالم ككوميديا، بل كوميديته كتاريخ العالم»
كارل ماركس



منذ فترة، قال أحد المسؤولين المصرفيين الكبار في ندوة مغلقة إن الحلّ في لبنان هو بـ«إلغاء الدولة»، معتبراً ضمناً أنه بضربة واحدة يتخلّص لبنان من الدَّيْن العام ومن عبء الدولة على القطاع الخاص، وبذلك أيضاً يتمّ التأكيد على الاقتصاد الحرّ وتفوّقه. كان ردّي أنني أوافق تماماً على هذا الطرح، لأن ذلك يخلّصنا بالفعل من اثنين: من الدولة الطائفية ومن القطاع الخاصّ المتخلّف الذي يعتاش منها، وعلى رأسه المصارف التجارية. اليوم، وفي ظلّ استفحال الأزمة المالية للدولة، ومحاولاتها الفاشلة للسيطرة عليها، لا بدّ من تحديد شكل العلاقة بينها وبين الاقتصاد، وبالتحديد بينها وبين الرأسمال الذي يجاهر دوماً أنه «ضدّها».
في البدء، تخضع هذه العلاقة لظروف تاريخية مُحدّدة، هي في صلب النقاش الدائر حالياً حول العالم عن دور الدولة في الاقتصاد. ومثال على ذلك، الدعوة لأن تقوم الدول في منطقة اليورو بالإنفاق التوسّعي بعد سنوات من التقشّف، لأن الاقتصاد في حالة ركود والسياسة النقدية، أي تلك التي يقوم بها المصرف المركزي الأوروبي، لن تنفع في حالة الفوائد المتدنّية. وعلى مستوى أكثر عمقاً، السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل هناك حاجة للعودة إلى ما كانت عليه الدولة قبل السبعينيات، وبالتحديد قبل تلك الفترة وحتى 1945. في كتابه الجديد «مستقبل الرأسمالية» الصادر في 2019، يقول بول كوليير الذي يعتبر البعض أنه آتٍ من «الوسط الصلب»، أي لا من اليسار ولا من اليمين ولكن الوقت نفسه ليس من الوسط الذي لا لون له، إن الدولة التي ظهرت بعد 1945 هي «الدولة الأخلاقية» (ethical state) وهي كانت السبب في إحداث «المعجزة» الاقتصادية التي استمرت ثلاثين سنة في الدول الرأسمالية المتقدّمة. يدعو كوليير إلى عودة هذه «الدولة» التي تمّ تفكيكها، ومن دونها ستبقى الاقتصادات المتقدّمة تغرق في الأزمة. هنا يمكن السؤال: هل من الممكن أن تكون الدولة الطائفية في لبنان هكذا «دولة أخلاقية»؟

الاقتصاد في كنف الدولة الطائفية
أوّلاً، من الواضح أن الأسس المادية لدولة كهذه لا تتوفّر شروطها في لبنان. فالأسس المادية كانت هي الأساس في دولة بعد 1945 في أوروبا وأميركا وليس التوجّه الأخلاقي فقط. يقول برانكو ميلانوفيتش في مراجعته لكتاب كوليير «إن الديموقراطية الاجتماعية لم تأتِ إلى حيّز الوجود لأن القادة الأخلاقيين قرّروا فجأة أن يجعلوا الرأسمالية ألطف. إلّا أن الحربين العالميتين، والثورة البلشفية، ونموّ الأحزاب الديموقراطية-الاجتماعية والشيوعية، وعلاقتهم مع نقابات عمّالية قوّية، أدّى إلى انتزاع التغيير من البورجوازية التي شعرت بتهديد المصادرة والفوضى الاجتماعية. فليس حسن نيّة اليمين هو الذي غَيّرَ الرأسمالية، وإنّما الطبقات العليا التي أخذت العبر من الماضي، قرّرت التخلّي عن بعض السلطات لتحتفظ بأكثر منها».

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في هذا الإطار، العلاقة بين التطوّر الاقتصادي والشكل السياسي للحكم في لبنان أخذ شكلاً مُحدّداً بعد الطائف. فسياسة الريعية والعكس المُبكر للتصنيع اللذان حصلا بعد إعادة الإعمار في 1992 كان لهما تأثير كبير على الدولة والسياسة في لبنان. فالاقتصاد الريعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام السياسي كما نرى في الدول الريعية الخالصة في الخليج، ويطال أيضاً بتأثيره الليبرالية السياسية بشكل عام. كتب مارتن وولف في الـ«فايننشال تايمز» في 18 أيلول/ سبتمبر مقالة عن كيفية تدمير الرأسمالية الريعية لليبرالية الديموقراطية في الدول الرأسمالية المتقدّمة. أمران من المقالة يلقيان الضوء على ما نواجهه اليوم في لبنان. ففي تعريفه للرأسمالية الريعية يقول وولف: «إنها تعني اقتصاداً حيث السلطة السياسية والسلطة في الأسواق تسمحان لأشخاص ومؤسّسات محظيين بامتصاص جرعات كبيرة من هذا الريع من الآخرين». هذا واضح في لبنان، سواء في الأسواق المالية، أو عبر المحاصصة المذهبية في الدولة. الأمر الثاني، هو أن التطوّر المالي (أي درجة تطوّر القطاع المصرفي والأسواق المالية)، مفيد فقط إلى نقطة محدّدة، بعدها يصبح عائقاً أمام النموّ، وكذلك أمام نموّ الإنتاجية، وفق دراسة لاقتصاديين من مصرف التخليصات العالمي في بازل. اليوم، يتمظهر هذا الأمر في النموّ الكبير للقطاع المصرفي وتحوّله مع مصرف لبنان إلى ما يُمكن أن نسمّيه المصرف الفائق (انظر مقالة «المهمّة المستحيلة بين الدولة الضعيفة والمصرف الفائق»)، الذي يُكَبّل الاقتصاد كلّه.
في المجال نفسه، كتب داني رودريك حول الآثار السياسية للعكس المُبكر للتصنيع (والذي حصل في لبنان بعد 1992) «من دون الانضباط والتنسيق الذي يوفّره وجود قوى عاملة منظّمة، يصبح احتمال حصول المساومة المطلوبة بين النخب وغير النخب من أجل انتقال ديموقراطي أقل. وبالتالي فإن العكس المُبكر للتصنيع يجعل من عملية الدمقرطة أقل احتمالاً وأكثر هشاشة». في هذا الإطار، يُمكن قراءة تهميش القوى العاملة والحركة النقابية بعد 1992 في لبنان كأساس في تجذّر نظام الطائف والديموقراطية التوافقية وصولاً إلى الفدرلة، وكذلك استبعاد القوى العاملة لكلّ أطيافها من دائرة الفعل السياسي، ما أدّى اليوم إلى سيطرة سياسات الهوية، التي يستحيل على «الدولة الأخلاقية» أن تقوم على مفاصلها.

من الشهابية إلى الثامن عشر من برومير
أطلق الشكل السياسي لدولة الطائف قوى جديدة ودمّر أخرى. ففي ستينيات القرن الماضي تمّ بناء الهيكل الأساسي للدولة الحديثة في لبنان، لكن رويداً رويداً وحتى قبل الحرب الأهلية، أنهت سياسات الهوية والسياسات المبنية على الجذب المذهبي والطائفي هذا الأمر، وجاء اتفاق الطائف ليعلن لبنان جمهورية طائفية صرفة، فانتهت المؤسّسات الشهابية، واستُبدِلت بمراكز قوى وتحاصص مذهبي بين الأحزاب الحاكمة، وانتهى عهد شخصيّات الدولة والتوظيف النظامي المؤسّساتي وجذب الكوادر، التي تدافع عن الصالح العام، واستُبدلت بالدولة الفدرالية والأحزاب التي تمتدّ جذورها إلى المجتمعات المذهبية في وضع شبه-إقطاعي. وبذلك، أصبحت تهيمن ليس على الدولة فقط، بل على المجتمع أيضاً في حياة الأفراد التعاقدية إلى التوظيف والفنّ والثقافة والتعليم. وأصبحت الدولة الطائفية دولة طفيلية وقامعة للمجتمع المدني، وتمثّل أيضاً المصالح المادية للبورجوازية وعلى رأسها الارستقراطية المالية، ومُولّدة للبورجوازية الرثّة ونظيرتها البروليتاريا الرثّة.
يقول كارل ماركس في وصفه لدولة لوي بونابرت: «تلف الدولة المجتمع المدني بشباكها وتراقبه وتوجّهه وتُهيمن عليه وتقوم على أموره، بدءاً من أكثر مظاهر حياته شمولاً إلى أقلّ حركاته شأناً، ومن أعمّ أشكال وجوده إلى حياة الأفراد الخاصّة، وحيث تكتسب هذه الهيئة الطفيلية، جرّاء المركزية الخارقة العادة، وجوداً كلّياً ومعرفة كلّية وقدرة على المرونة والحركة المتزايدتين اللتين لا تجدان لهما ندّاً إلّا في عدم الاستقلال العاجز للهيئة الاجتماعية الفعلية وفي ميوعتها وانعدام شكلها. واضح أن الجمعية الوطنية تخسر في بلد كهذا كلّ نفوذ حقيقي لها عندما تفقد سيطرتها على توزيع المناصب الوزارية، إن لم تعمد في الوقت نفسه إلى تبسيط إدارة الدولة وتخفيض جيش الموظّفين بقدر الإمكان، وأخيراً إن لم تدع المجتمع المدني والرأي العام يخلقان أجهزة خاصّة بهما مستقلّة عن السلطة الحكومية. بيد أن المصالح المادية للبرجوازية الفرنسية مُتشابكة أوثق التشابك مع الاحتفاظ بجهاز الدولة الواسع هذا بما له من تشعّبات متعدّدة.
توفّر هذه الدولة فضاءً لامتصاص الفائض من القوى العاملة غير الماهرة عبر التوظيف في القطاع العام، فيما تبقى القوى العاملة الماهرة من دون أي عمل يتماهى مع مهاراتها

فهي تجد هنا الوظائف لمن يفيض من بينها وتعوّض، على شكل المرتبات الحكومية، عما تعجز عن أخذه لجيبها على شكل الأرباح والفوائد والريع والمكافآت». هل يبدو كلّ ذلك مألوفاً في لبنان اليوم؟ بالطبع، إذا تصوّرنا اتفاق الطائف في أيلول/ سبتمبر 1989 مثل «الثامن عشر من برومير» في فرنسا في 1851، نجد أن الثاني أتى بلوي بونابرت والأول أتى، ليس بشخص، بل بنظام طائفي خالص أصبح اليوم مثل سلفه «مهرّجاً يرى في كوميديته تاريخ العالم».
إذاً أصبحت هذه الدولة في لبنان ملعباً ومسرحاً في الاقتصاد السياسي البحت حيث يقتسم الرأسمال والأحزاب الحاكمة مواردها. ولا تلعب هذه الدولة دوراً يُذكر في تحديد الناتج أو محاربة الركود أو التخفيف من دورة الأعمال، فهذا خارج إطار عملها. كما أن السياسة النقدية هي لتحديد سعر صرف العملة والإبقاء على ربح القطاع المصرفي وإيجاد بعض التوظيفات للسيولة الواردة نتيجة النموذج. ففي فترة النموّ تتحوّل إلى قروض وفي فترة الأزمة إلى تخزين (hoarding)، أي عكس ما يجب أن تقوم به، لأن الهدف ليس الاقتصاد بل القطاع المصرفي والأسواق المالية. وتوفّر هذه الدولة فضاءً لامتصاص الفائض نحو التوظيف فيها من القوى العاملة غير الماهرة، وتبقى القوى العاملة الماهرة في هذا الاقتصاد من دون عمل يتماهى مع مهاراتها. وأخيراً، توفّر الدولة الأرباح للقطاعات الخاصّة الأقل إنتاجية من تعليم وصحّة وخدمات ما يُعزّز الاقتصاد الريعي.
في النهاية العلاقة بين الرأسماليين والدولة الطائفية ليست إلى حدّ التماهي، فالتناقض بين «كبر حجم» الدولة التوظيفي ومصلحة الرأسمال في بيئة ماكرو-اقتصادية من دون ضرائب عليه وفي الوقت نفسه مستقرّة، ظهر إلى حدّ كبير في انفجار سلسلة الرتب والرواتب التي كسرت العلاقة المريحة بين الدولة الطائفية والرأسمال. اليوم، تحاول البورجوازية والدولة سبر أغوار الأزمة العامّة وأزماتهما الخاصّة، تتمظهر الأزمة في العلاقة بينهما من خلال المؤشّرات الاقتصادية من فوائد وسعر الصرف وتدنّي الربحية. وبسبب فقدان الميكانيزمات الداخلية للحلّ يتمّ اللجوء إلى الخارج لإعادة تنظيم هذا النموذج الاقتصادي-السياسي. إلّا أن التحدّي الآتي هو بأن ننتهي من سياسات الهوية ونظيرتها الرأسمالية الريعية، ونعيد تنظيم أسس الدولة والاقتصاد والمجتمع على مفاصل الطبقات، لأن صراعها كما اتفاقها يُقَدّم المجتمع إلى الأمام، وتاريخ الرأسمالية في القرن العشرين خير دليل على ذلك، وهذا ما يجب أن نفعله لنَندَفع إلى الأمام ولكي لا نعود إلى، أو بالأحرى نبقى في، منتصف القرن التاسع عشر.