«الإنسان يصنع تاريخه، ولكن ليس كما يرغب، إنّما في ظروف موجودة ومُعطاة له من الماضي»
كارل ماركس


في خِضَم الأزمة التي تتعمّق يومياً في لبنان، لم يعد السؤال المحوري، ما العمل على المدى القصير؟ بل هل الرأسمالية اللبنانية على ما يرام؟
لبنان الآن في خِضَم حالة اقتصادية على حدّ السكين بين الاستقرار الذي يحافظ على القديم، وكما رأينا يُعَمّق الأزمة، وبين انهيار عبر انهيار سعر الصرف. وعندها تنفتح الاحتمالات على إعادة خلط كبيرة للمواقع الاقتصادية بسبب التضخّم الذي سيحصل في اقتصاد تمّ فيه التثبيت النقدي عملياً منذ أكثر من 25 عاماً، وأصبح فيه الدولار الأميركي وسيلة للحساب والدفع وتخزين الثروة، فإنها ستؤدّي إلى تدمير القديم ولكن بطريقة فوضوية ومفتوحة على اللايقين والتشظّي. عندها سيصبح فعلاً المستقبل محكوماً «بقوى الزمن المظلمة وبالجهل»، كما قال كينز عن الرأسمالية بوضعها المستقرّ، فكيف في حال التضخّم المُنفلت الذي يؤدّي إلى «تغيّر في الأسعار والمكافآت، كما تُحْتَسَب بالنقد، يؤثّر بشكل عام على الطبقات بشكل غير متساوٍ، وينقل الثروة من طبقة إلى أخرى، ويُعطي الغنى هنا ويُعطي العوز هناك»، كما قال كينز أيضاً.
وبالتالي، إذا كنّا أمام مفترق الطرق هذا، فلا بدّ من النظر في احتمال «الطريق الثالث حيث ينتهي القديم، ولكن من دون أن ندخل في الانهيار الذي يخشاه الجميع». في هذا الإطار، إذا بدأنا بمُسَلّمة أن الاقتصاد السياسي اللبناني كلّه داعم لثبات سعر الصرف، وأن التخفيض المُنظَّم لسعر الصرف قد لا يكون مُتاحاً، أي أنّنا أمام الثبات أو الأزمة أو انهيار، فإن الطريق الثالث، أو الجديد، يجب أن يأخذ ثبات سعر الصرف كجزء من هذا النموذج الجديد. وهذا ليس بالأمر السهل، أو التفصيلي، فهو يطرح تحدّياً كبيراً أمام هذا النموذج الجديد. عادة في أزمة مثل التي يمرّ بها لبنان، تنطوي على عجزين تجاري وجاري كبيرين، وفي ظلّ تراجع التدفّقات المالية الخارجية وتراجع الصادرات وانخفاض النموّ وارتفاع البطالة، فإن الخيار يكون بالتخلّي عن ثبات سعر الصرف. فيما الخيار الآخر، كما رأينا الأسبوع الماضي، هو في الحفاظ على القديم مع إحداث انكماش كبير في الاقتصاد.
من هنا، إن بناء النموذج الجديد مع سعر ثابت للعملة لن يكون سهلاً، ويتطلّب أموراً أساسية لبنائه:
أوّلاً، يجب إحداث تغيير للمنظومة السياساتية policy regime التي اتُّبِعت في الاقتصاد اللبناني منذ عام 1992، وإعلان الأسواق والعملاء الاقتصاديين عن أن تلك المرحلة انتهت ولن يعود لبنان إليها. في هذا الإطار، يجب تغيير أصل النموذج القديم، أو الخطيئة الأولى، وهي الاستدانة الحكومية وتراكم الرأسمال الريعي الناتج عنها. فالإنفاق الكبير الذي حصل منذ ذلك الوقت بالتزامن مع خفض الضرائب على الرأسمال، أدّى إلى تراكم الدَّيْن العام من جهة والثروة لدى القلّة من جهة أخرى. ومن دون هذا التغيير، فإن لا طائل في أي من السياسات، ولن يفيد لا الاتّكال على النموّ، ولا على التدفّقات الخارجية. ألم تأتِ الأزمة بعد نموّ بين عامي 2007 و2010، التي جعلت البعض يظنّ أننا تخطّينا الأعجوبة الصينية؟ ألم تأتِ الأزمة بعد سنوات عديدة من التدفّقات المالية التي كانت أعلى بالنسبة إلى الفرد من مشروع مارشال في ألمانيا الغربية؟ ألم تأتِ الأزمة على الرغم من الأرباح الطائلة للقطاع المصرفي الذي أوهم أيديولوجيوه اللبنانيين أن لبنان بخير ما دام القطاع بخير؟ إذاً، «علينا تخييب أمل الريعي»، وإعلان أن لبنان دخل في منظومة سياساتية جديدة. ومن أجل تخييب أمل الريعي يجب وضع الضرائب العالية عليه وعلى الرأسمال عموماً من ضريبة الثروة إلى ضريبة الإرث إلى رفع ضريبة شركات الأموال، وذلك لهدفين إضافيين: أوّلاً، حلّ معضلة عجز الخزينة، وثانياً، نقل الموارد من الريع إلى الاستثمارات الإنتاجية.
ثانياً، يجب إزالة شبح الدَّيْن العام. وعند ذلك يمكن أيضاً البدء بعمليّة إعادة الإقراض في الأسواق. فالدَّيْن المحمول من المصرف المركزي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي اللذين هما هيئتان عامّتان لا يشكّلان دَيْناً للدولة مملوكاً من الأسواق أو الاقتصاد الخاصّ، بل هو دَيْن «داخلي» بين أطراف الدولة، وبالتالي يجب عدم احتسابه عند تقييم مقدرة الدولة على سداد ديونها. في هذا الإطار، على المصرف المركزي أن يحوّل كلّ دَيْن الدولة إلى سندات أبدية perpetuities بفائدة صفر بطريقة تدرّجية. وهذا الأمر سيكون له وقع إيجابي جدّاً على موازنة الدولة اللبنانية. على أن يتمّ في المقابل وبموازاة ذلك، سحب المصارف لودائعها واستثماراتها لدى مصرف لبنان وإعادة إقراضها في القطاع الخاص. وهذا أفضل بكثير ممّا يحصل الآن من سحب لإعادة إقراض الدولة اللبنانية، كما ذكرت «بلومبرغ». إذا حصل كلّ ذلك، لا يعود الدَّيْن العام بالأهمّية نفسها كما هو الآن، ويخفّ الضغط عن الليرة اللبنانية، كما أن التوسّع النقدي سيكون له وقع إيجابي على الاقتصاد.
ثالثاً، الانتقال إلى اقتصاد يراكم الرأسمال الإنتاجي، وتأكيد ملكيّة الدولة في «القمم المسيطرة» في الاقتصاد. يعاني الاقتصاد اللبناني بعد سنوات من الركود من قلّة الرأسمال، أو حتّى شحّه، ما يؤثّر بشكل مباشر على إنتاج البطالة. وهنا يجب فعل عكس ما تضمّنته ورقة رئيس الحكومة سعد الحريري، أي بدلاً من الخصخصة، يجب تأكيد سيطرة الدولة على الاتصالات والطاقة والمياه، من أجل استعمال الموارد في تعزيز دور الاستثمارات العامّة في دعم الانتقال إلى تراكم الرأسمال الإنتاجي، وهنا يأتي دور استثمارات مؤتمر «سيدر». اليوم، ستستعملها الدولة لبناء البنية التحتية، بينما تريد تسليم كلّ البنية التحتية إلى القطاع الخاص ليسيطر عليه، ما يُعدّ الشكل الجديد لدعم القطاع الخاص من قِبَل الدولة عبر الاستدانة. من هنا، يجب على الدولة أيضاً أن تعيد النظر في رزمة مشاريع «سيدر»، واستعمال الموارد في دعم القطاعات الأكثر إنتاجية والصناعات التصديرية من دون أخذ التوزيع المناطقي للمشاريع أو منافعها الخدماتية بالاعتبار. في مجال آخر، إن إلغاء الدعم تدرّجياً عن سعر الكهرباء يجب أن يقابله تخفيض تدرّجي في أسعار الاتصالات، أو استعمال الفائض في الاتصالات نحو الاستثمار العام في القطاعات نفسها.
على البنك المركزي أن يحوّل كلّ دَيْن الدولة إلى سندات أبدية بفائدة صفر، وأن تسحب المصارف ودائعها لديه وتعيد إقراضها إلى القطاع الخاص


رابعاً، لبنان بحاجة اليوم إلى «مساومة تاريخية» بين جميع الطبقات الاجتماعية. إن الخروج من الأزمة، مع الحفاظ على ثبات الليرة، والانتقال إلى نموذج اقتصادي جديد إنتاجي عصري، يتطلّب تكيّفاً معقّداً من حيث خفض الاستيراد وزيادة التصدير وزيادة الاستثمار والتوظيف وإنهاء حالة البطالة العالية. وهذا يتطلّب إجراءات قاسية، ولكن لن تكون فقط على الطبقات المتوسّطة والعاملة أو من دون طائل، بل يجب أن تطال جميع الطبقات، وأن يكون لها هدف نهائي في بناء النموذج الجديد وهدف آخر مرحلي هو الحفاظ على ثبات سعر الصرف. كما يجب أن تطال، كما رأينا، ضرائب على الأرباح والثروة والتوريث أعلى بكثير ممّا هي عليه اليوم، ومن ثمّ تحويلها إلى الاستثمار في بناء القدرات الإنتاجية. كما يجب أن تترافق مع بعض الضرائب الاستهلاكية من أجل تصحيح الحسابات الخارجية ومن أجل تحويل الموارد إلى الإنتاج والاستثمار. أخيراً، ولمدّة معيّنة، يجب اتّباع سياسة «كبح الأجور» (wage restraint) في القطاعات المتدنّية الإنتاجية والخدماتية، وسياسة «الأجور العالية» في القطاعات العالية الإنتاجية والجديدة، من أجل ضمان التراكم والتنافسية لخلق حلقة حميدة من الإنتاج والاستهلاك والابتكار في الاقتصاد اللبناني. ولتحقيق ذلك، هناك حاجة إلى اقتصاد سياسي جديد داعم لليرة اللبنانية وداعم للنموذج الجديد، لأن الاقتصاد السياسي القديم، أي ترويكا المصارف والمصرف المركزي والدولة، يترنّح، أو أصبح كما بيّنت التطوّرات السريعة غير كافٍ، لذلك يجب إضافة الشعب والرأسمال إليه، فتصبح «ترويكا بلاس»: الرأسمال والشعب والترويكا.
في النهاية، نحن بحاجة إلى ما أسماه المؤرِّخ الاقتصادي الأميركي، بيتر تمين، تغييراً في المنظومة السياساتية من أجل الخروج من الأزمة. ومن أجل إنهاء النموذج القديم بكلّ أبعاده وإنهاء النظام الاقتصادي الريعي، يتطلّب ذلك تكيّفاً كبيراً وسياسات راديكالية جديدة تكسر مع الماضي. وبالتالي، لن يحدث ذلك ضمن التركيبة السياسية الحالية، ولا ضمن السيطرة الحالية للرأسمال على السياسة الاقتصادية. فالمساومة التاريخية يجب أن تفرضها قوى سياسية جديدة، تفرض تغيير المنظومة السياساتية بأكملها.

تريد الدولة تسليم كلّ البنية التحتية إلى القطاع الخاص ليسيطر عليها، وهو ما يُعدّ الشكل الجديد لدعم القطاع الخاص من قِبَل الدولة

ويمكن هنا أن نأخذ دروساً من التاريخ؛ من ما حدث في الولايات المتّحدة عند مجيء روزفلت، ومن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومن الصين بعد إصلاحات دينغ هسياو بنغ. وأقرب إلى اليوم، إعادة انتخاب اليسار في البرتغال الأسبوع الماضي، بعد أن حكم منذ عام 2015 وغرّد خارج السرب التقشّفي الأوروبي من اليونان إلى إيرلندا. إذ تتمتّع البرتغال الآن بانتعاش اقتصادي بعد سنوات من التراجع. يقول نائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، دافيد ليبتون، في مداخلة له في آذار/ مارس 2019 أنه في البرتغال «علينا النظر في ثلاث مجموعات من الأرقام: أوّلاً، بلغت البطالة ذروتها عند 16% في عام 2013، مع معدّلات عالية لدى الشباب. بينما يبلغ معدّل البطالة الآن 7%، وهو أدنى مستوى له منذ عام 2004. كما كان هناك انخفاض حادّ في عدد العاطلين عن العمل على المدى الطويل، وتراجع كبير في بطالة الشباب. ثانياً، كانت العائدات على سندات البرتغال فوق الـ10% خلال عامي 2011 و2012. وعلى النقيض من ذلك، يبلغ العائد اليوم على سندات العشر سنوات نحو 1.3%. وأخيراً، كان العجز المالي الإجمالي في عام 2010 نحو 11% من الناتج المحلّي، بينما اليوم تستهدف الحكومة عجزاً صغيراً جدّاً. بالإضافة إلى ذلك، ازدهرت الصادرات والسياحة، وكان الحساب الجاري متوازناً تقريباً خلال السنوات القليلة الماضية، بعد أن كان العجز الخارجي كبيراً جدّاً لفترة طويلة». (هل تبدو الأرقام مألوفة؟). كلّ هذا حدث بسبب ما عُرِف بسياسة «الآلة الغريبة» (contraption) بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والكتلة اليسارية التي استطاعت أن تعيد ملكية الإصلاحات إلى الشعب البرتغالي، والذي أعاد انتخابها اليوم. هكذا يكون التغيير وهذا ما نحن بحاجة إليه اليوم في لبنان.