دمشق | تروي أساطير الدراما الشامية بأنه من يمرّ ليلاً في أزقة الشام القديمة، يشتهي لو أنه علّق قنديلاً عند أبوابها! شامة الدنيا، التي تغزّل بها أعمدة الشعر العربي، ما زالت قادرة على بعث البهجة في مفاصل سكانها، حتى وهي مترفة بالوجع. تعبها وظلام زواريبها هذه الأيّام، لن يخفيا شيئاً من حسنها رغم أنه لم يبق من تاريخها العامر بالشهامة، وقصص مقارعة المستعمر، سوى جدران بيوتها المسنودة على بعضها. تتسع الرؤية على التراث، والتقاليد كلما ضاقت الأحياء المنسكبة من بعضها مثل طبق رمضان، أو «السكبة» كما يسميها الشوام العتيقون، عندما كان الجار يرفض أن يكسر سفرته من دون أن يتذوّقها جاره.
روحانية المكان ستجعلنا نركن السيارة في ساحة «باب توما» ونقصد لوكيشن «قناديل العشّاق» (خلدون قتلان وسيف الدين السبيعي) مشياً.
سنتوقّف طويلاً في الساحة الشهيرة، لنتذكر الشاعر الكبير محمد الماغوط عندما قال: «أشتهي أن أقبِّل طفلاً صغيراً في باب توماً». أما في طلعة القشلة حيث يزدحم الشارع بالمارة كأنها أمسية عيد، سيكتمل المشهد عندما يرتفع صوت المغني السوري صفوان العابد من محل تسجيلات بأغنية شارة «طالع الفضة» (عنود الخالد وعباس النوري وسيف الدين السبيعي) «كنا بمودة نعيش بالحب، أهل وجار، مسلم ونصراني، بوجه الزمن لو جار... وحياة عيسى وموسى والمصطفى من جار، منضل نحنا الأصل لو عشنا أو متنا». الكلام يختصر جزءاً من تاريخ أقدم عواصم العالم، كما أنه يعدّ المدخل الأميز لأجواء مسلسل السبيعي الجديد. بينما نتمتم كلمات الأغنية، نصل حديقة القشلة المعروفة. يتخذ عشاّق دمشق من زواياها المعتمة ملاذاً لتبادل قبلات الحب الهاربة من عيون المتلصصين والمجتمع. سريعاً، تأتينا تعليمات مدير إدارة الإنتاج سامر الطويل بأن ننحدر نحو حارة «العبّارة» ونصل إلى بيتين دمشقيين متقابلين حيث تدورالكاميرا. الطويل يضبط العمل، والغلط ممنوع. أولويته أن يكون الممثل مرتاحاً بالحد الأقصى كي يعطي أفضل ما عنده.
يستقبلنا النجم اللبناني رفيق علي أحمد بزيّه الشامي العائد إلى القرن السابع. سرعان ما يطفو مزاجه المسرحي عند سؤالنا عن مدى قدرته على إجادة اللهجة الشامية. لطالما عرفه جمهور التلفزيون من الدراما السورية، بدءاً من «الزير سالم» مروراً بـ «القعقعاع» و«جلسات نسائية» و«الأخوة» وانتهاءاً بالتجربة المربكة «أحمر». في تصريحه لـ «الأخبار»، يقول: «الرهان هنا هو لعب دور زعيم حارة الشاغور، رغم أن المشاهد اعتاد أن يرى فيه مثلاً النجم الراحل رفيق السبيعي، لكن يبدو مشجعاً لي أن أجسّد مرجعية اجتماعية لحيّ الشاغور العريق». يقطع حديثنا صوت نضال عبيد المخرج المنفذ وهو يحضّر المشهد «استعداد، صوت، كاميرا». بينما ننسحب لنتابع من خلف المونيتور مشهداً سهلاً لرفيق علي أحمد، نجاح سفكوني، رامز أسود، حسن عويتي، وإيهاب شعبان، ينهي صاحب مسرحية «وحشة» مشهده، ويتحضّر للعودة إلى بيروت في الليلة ذاتها. من جانبه، يلعب النجم حسن عويتي دور الحكواتي بأسلوبية هذه الشخصية التقليدية، ربما من دون إضافات تذكر. نجرّب استفزازه بأن لا جديد في دوره الهامشي الذي لا يدخل في عمق حكاية «إيف اليهودية» (سيرين عبد النور)، فيرد بحسّه الساخر المعهود: «ما بساير بابا الله يجعلها أكبر المصايب». أما دور الحلّاق، فيجسّده الممثل محمد خير الجرّاح ويخبرنا عنه: «يبتعد الحلاق هنا عن نمط الثرثرة المعتاد في أعمال البيئة الشامية، لينحو باتجاه سوسة النساء. الرجل المزواج المطلاق يواظب على زيارة الماخور، حيث يلتقي إيف لأكثر من مرّة ويغرم بها».
من جهته، يبدو المخرج سيف الدين السبيعي (الصورة) الذي لمع في أعمال البيئة الشامية، على محك التجربة من جديد رغم تاريخه الطويل، يقول لنا: «العين علينا ولا مجال أمامنا سوى النجاح». نستفسر أكثر عن شخصيات المشهد الذي تابعناه، فيقول «هنا نصوّر هوامش بيئية تدعم الحكاية الأصلية، لكننا نقدّم نمطاً مختلفاً، إذ لن نشاهد في العمل كلّه شيخاً أو رجل دين، كما اعتدنا أن نتابع في الدراما الشامية، إنما سنهيّئ الأجواء بمفردات البنية الدمشقية، لنقدّم قصة حب مبررة، ومشوّقة جرت أحداثها في القرن السابع عشر». في السياق ذاته، ينفي مخرج «نبتدي منين الحكاية» أن يكون النص قد اعتمد على يوميات المؤرخ الشهير البديري الحلّاق إلا بالمرحلة التاريخية، وتسمية الشخصيات، طالما أنه قدّم معتمداً على الحلاق الشهير ثلاثة أجزاء من مسلسل «الحصرم الشامي».
عند مغادرتنا، سنلتقي بكاتب النص خلدون قتلان، نختصر الحديث بوداعه وتركه لبدء جلسة عمل مع مخرج العمل لإنجاز تعديلات محددة، خاصة أن سبق له أن شرح تفاصيل قصة مسلسله كاملة في حديث سابق معنا. كاتب «بواب الريح» (إخراج المثنى صبح) نجح سابقاً في تأليف مجموعة أشعار محكية عن الشام مستمدّاً بلاغتها من روح المرحلة التي يخوض فيها حدثه. حينها، ظنّ بعض المتابعين بأنه عثر على مخطوطات تراثية ساعدته في حياكة صور بلاغية مؤثرة، أداها ببراعة نجوم سوريون منهم دريد لحّام وغسان مسعود. أما في العمل الجديد، فسنتابع شيئاً من هذا القبيل لكن بحس ساخر، وعلى لسان «رسلان» (رامز أسود) الذي يدندن كلمات تصف الشام آنذاك. يقول الرجل الفقير واصفاً دنياه: «فلتانه الدنيه فلتانه .. مقلوبة ومالا دريانه... فيها الفقرا صاروا بقرة جوعانه، وما عندا حشيش، وفلتانه الدنيه فلتانة».