أُغلِقَ القوسُ على حياة المُغنّي اللّبناني سامي كلارك (1948- 2022) تاركاً وراءَه إرثاً فنّياً شكّل ذاكرةً جمعيّة لأجيال مُختلفة، يجمعُ بينها قاسمُ التّطلع إلى «حياةٍ عَصريّة» تتداخلُ فيها الأزياء وتسريحات الشَّعر مع الألحان الموسيقيّة، وصولاً إلى تغيير الأسماء من سامي حبيقة إلى كلارك ليتوالف بسهولة مع دعوى الإشعارات العالمية. كل ما سبق شكّلَ طابعاً لافتاً اصطبغت به مرحلة يُمكنُ تسميتُها بجيل ما بعد الرّواد، الجيل الذي انزاحت فيه الموسيقى عن صورة لبنان الفولكلوري الذي تبنّاه وأسّسَ له الرّواد الرّحابنة ونصري شمس الدين ووديع الصافي وآخرون، حيثُ تلعبُ البيئة دورَ مُحرّكِ الدّفع صوبَ العالمية والاعتراف. على العكس من ذلك فإنّ الجيل التالي الذي انتمى إليه كلارك آثرَ الاشتغال على البُنَى اللّحنيّة لموجة موسيقيّة تأسّست في السّتينيات ثمّ اجتاحتِ العالم، قبل أن تأتي سنوات الحرب الأهلية اللبنانية وتواجه ممثلي تلك الموجة بموسيقى واقعية موازية، ولتمتحن أهليّة ذلك الخطاب «الكوني» وتنظر في خلفياتِه المحليّة والاجتماعية. بطبيعة الحال لم يتلقّف كلارك بمفرده تلك الموجة، ولا سعى إلى تمثيلِها بشكل معزول، إنّما كانت له تعاونات فنيّة مكّنت لذلك الجيل خطّه وتوجهه المُختلف، من هنا يُمكنُ النّظر في شراكته الفنّية مع المُلحّن إلياس الرحباني (1938- 2021) الذي قدّمَه بوصفه صوتاً كونيّاً يُجيدُ الغناء بعدّة لغات بين أواخر السّيتينيات وأوائل السّبعينيات، ليُقدّمَ الثنائي أغنية Mory Mory بالإنكليزيّة مترافقةً مع بداية عصرٍ جديدٍ في الغناء تدعمُه الصّورة ولا يقومُ إلّا بها، ونقصد طبعاً عصر الـ«فيديو كليب» الذي دشّنَ عقد السبعينيّات وحرّرَ الأغنية على سياقين، أوّلاً على صعيد السياق الإنتاجي المرتبط بالأفلام، وثانياً على صعيد الطقوس المسرحيّة وتَبِعاتها التّطريبيّة الثقيلة والحضور الجمهوري، أمّا مع الكليب الملوّن والقصير والرّشيق صار يكفي أن يقف المُغني مُمسكاً بيده دميّة ليُقيمَ معها «ديالوغاً» قوامه السّخرية الكوميديّة من الذّات العاشقة، ومن هجر المحبوبة له واستخفافها به، سخرية تبتعد عن تراجيديا الشّقاء ومواويل الانتحاب، وتُحيل ما حدَثَ إلى عبثيّة الأيام، وهذا ما كثّفه كلارك في أغنيته «آه على هالأيام» وأغنيات شهيرة أُخرى مثل «قلتيلي ووعدتيني» حيث تتجسّد فيها القطيعة والفراق بعد حب على أنّهما ألاعيب مكشوفة لا يدَ لنا فيها، مع ذلك نخوضُها ونتوقّع نتائج مغايرة!
في المقابل، هذا لا يعني أنّ الموضوعة النمطيّة في الحبّ الرومانسي، أي الشّقاء، لم يجد له مكاناً في عالم كلارك كأغنيته «تتذكري» المليئة بالتّفاصيل المتوقّعة أيضاً من الحبّ، إنّما من باب التّراجيديا والحزن. هذا عن الشّقاء بصيغة المُفرد، أمّا بصيغته الجمعية فغنّاها كلارك في ترنيمة «سيدي» التي صدرت من ألبوم كيريالسون من ألحان الفنان زياد الرّحباني، حيثُ خاض الاثنان مجازاً لحنيّاً تجديداً بعيداً عن الأنماط التقليدية التي تُقدّم عادةً مع الرموز الدينيّة.
في الثمانينيّات توسّعتْ مداركُ الصّورة، وتبيّنَ أنّ مجالاتِها أرحب، وضروراتها مُلحّة، وهنا تشعّبت الموسيقى لتوافي متطلّبات الإنتاج التلفزيوني، وبرزت شارة المُقدّمة لتتصدّر بأهميّتها أول علامات الجذب الفنّي، وصار الاهتمام بها يوازي أهميّة المحتوى الذي يقدّمه العمل سواء أكانَ مُسلسلاً موجّهاً للكبار وللعائلة، أم سلسلة كرتونيّة للصغار، وفي كليهما راكمَ كلارك نقاطاً لصالح ذاكرة دافئة لدى أجيال عدّة، وقد حضر بِخامةِ صوتِه الأوبرالية ليصنعَ نسقاً قوياً جمعَ فيه بين قوّة الكلمة والأداء العالي، وفي هذا السياق يبدو من البديهي القول إنّ شاراتٍ مثل جزيرة الكنز (النسخة العربية 1983) وغراندايزر، التي وقّعها كلارك بصوته، دشّنَت زمناً جديداً في عالم الأطفال والرّسوم المتحرّكة استمرّت حتّى مطالع الألفية الثالثة، وتغيّر توجّهات الصّناعة مع زمن الصّحون اللاقطة أوّلاً، ومن ثمّ انقلاب أولويّاتها مع اكتساح البث الشبكي للمشهد، عند هذا الحد حتّى تلك الكونيّة التي نشَدها جيل كلارك باتت مُهدّدة بموجة أسرع ساهمت بتحجيمها.
بعد مسيرة حافلة ملأ فيها كلارك المَسارح وشغلَ الذّاكرة بجولاته الموسيقيّة العالميّة التي حازَ على إثرها أوسمةً وجوائز، بدتِ العقود الثلاثة الأخيرة أقلّ بريقاً؛ ربّما بسبب تسارع الميديا ومتطلّباتها في عصرنا الراهن، واشتغالِها المحصور بتقديم خدمات الترفيه اليومية المدعومة بشركات إنتاج ضخمة وغير محلّية تُروّج لموسيقى لا تبني على ذاتها، بقدر ما تجتهد كلّ موجة أو صيحة جديدة منها في إلغاء ما سبقها، مُحتكمة للكمّي وليس النّوعي، مع ذلك فإنّ كلارك أصرّ على الحضور من خلال التريو (الثلاثي) الغنائي الذي جمعه بالأمير الصغير وعبده منذر وحمل اسم الجيل الذهبي Golden age الثلاثي الذي شارك في عدد من المهرجانات المحلية، وأصدر ستة ترانيم ميلادية، وكذلك أغنية «هلق وقتك» في مناسبة وصول ميشال عون إلى سدّة الرئاسة عام 2016، قبل أن يُغمضَ ابن ضهور الشوير عينيه ظُهر الأحد 20 شباط 2022، مُخلّفاً وراءه أكثر من 700 عمل تُذكّر به وبمسيرته.