عاشت نجاح سلام المُغنّية اللبنانية «العروبية» ردحاً من الزمن الذي كان متلوّناً حيناً بالجمال وحيناً بالبشاعة وحيناً بالظروف التي أحلاها مُرّ وكانت صابرة، لكنْ على التحدي الذي تفرضه شخصية امرأة أقنعت مجتمعاً كاملاً في مسقط رأسها بيروت بأن العمل في الغناء ليس عيباً. صحيح أن والدها محيي الدين سلام كان أبرز موسيقيي مرحلة الخمسينيّات وما بعد، ما سهّل لها الحضور في عالم التسجيل والحفلات، إلّا أن موهبة البنت الطالعة كشهب النار المتدفّق حيويةً صوتيةً، أدخَلت في القناعات المتوارَثة أباً عن جَد أنّ احتراف الفن ليس مَهلَكة، بل هو خيَار مهني بالغ الجمال والتأثير.
أفيش فيلم «دستة مناديل» (إخراج عباس كامل ــ 1954)

عاشت نجاح الطيّبة الرقيقة المثقفة سنوات طويلة من الشهرة والتقدير والإعجاب من شخصيات الفن والسياسة والمجتمع في لبنان والعالَم العربي شرقاً وغرباً بجدارة الفنانة الملتزِمة المُدافعة عن الحق العربي فوق كل منبر، وعاشت سنوات أخيرة مختَفية حتى ظن بعضنا أنها رحلت ولم يعرف بها أحد. لكن مواقع التواصل لا تمنح أي بني آدم له حضور في الحياة العامة من الموت بسلام بعيداً من طنطناتها وضجيجها. وغياب نجاح سلام قبل الغياب، كان بالاشتراك مع المرض والصحة المعتلّة والذاكرة المنحسِرة. قبل عشر سنوات تقريباً، صوّرتُ في برنامجي على «تلفزيون لبنان» حلقة مع الياس الرحباني، وكانت حلقات برنامجي مباشرة، ويبدو أن نجاح شاهدَتها في مقر إقامتها يومها في الكويت، فاتصلَتْ مباشرةً وكنتُ ما زلت في مبنى التلفزيون وتكلّمَتْ وتكلّمَتْ وتكلّمتْ عن الماضي والحاضر والظالم والمظلوم والزمن الجميل والزمن الرديء والجمهور المُحتَرِم الفنانين والجمهور المنهَزِم بالفنانين، ومقابلات التلفزيون الثقافية ومقابلاته العشوائية، والحوار الراقي والحوار الفاضي… حتى وصلتُ وأنا أكلّمُها إلى بيتي على فَرْد نفَس، فأُسقِطَ في يدي حزناً وألماً لمصير نجاح سلام مع الأيام التي ستأتي، إذا أتت، محمّلة بتعَب بدَني وروحي ونفْسي وتواصُلي.. والله يكون في العَون. نجاح سلام كانت أبرز مغنيات الخمسينيات والستينيّات والسبعينيّات والثمانينيات وظلّت حاضرة رغم الحصار الطبيعي الذي شكّلَه بحكم الواقع «الجديد» جماعة «استديو الفن»، ما استدعى يومها الكبيرة صباح، وكانت أبرزهم، إلى القول في مقابلة عام 1974.. «قديش بعد بدي غني سنتين تلاتة وخلَص». نجاح سلام لم تكن لتعترف بما اعترفَت به صباح لأنها من طبيعة بشرية أُخرى لا تؤمن بالانهزام أو باستقالة الفنان طالما أنه قادر على الاستمرار. ومع أن صباح لم تختفِ يوماً حتى وفاتها في القرن الجديد، وقاتلت القرن الماضي حتى آخر يوم فيه، لكنّ نجاح سلام آثَرت وكل مَن حولَها أن تبتعد وتغيب غيابها القاسي الذي أرسل خيبة من واقع الإنسان عموماً وأقداره وما ينتظره من الحُفَر الخطرة. فكيف سيتقبّل من عاش المسارح والحفلات والمهرجانات والسينما ومصر ولبنان والعالم العربي أن ينكفئ إّلا مُجبَراً بيَد الأعمى القهّار الغدّار الذي هو الزمن؟
محيي الدين سلام العازف القدير لم يحتكر ابنته. عرّفها إلى الملحنين والشعراء وزملائها الفنانين وحين تزوّجت المخرج محمد سلمان الشاب المنفتح الأشبَهي الطيّب ذا الصوت الصادح غناءً، والموهبة الإخراجية، دخلَت برفقته عالم الفن كلّه، وكان منزلهما ملتقى فنون وشخصيّات كبيرة ونادرة الطاقات، وسهرات وتحضيرات مهرجانات وأفلام سينمائية، وفي هذا الزمن انشغلت نجاح بتسجيل أغنيات من ألحان أكبر الملحنين أمثال فيلمون وهبي، وسامي الصيداوي وعفيف رضوان والعشرات ممن كانت الإذاعة اللبنانية تعجّ بهم، إلى حدّ أن بعض زملائها، وتحديداً زميلاتها، قُلن إن «نجاح سلام احتكرت الغناء والحفلات ومهرجانات الصيف وتسجيلات الإذاعة والسينما اللبنانية وكادت تضعنا في بيوتنا»، وهي الصوت الذي حين طرَق أبواب مصر استُقبِل استقبال الفاتحين ونشطَت التسجيلات في زمن الرئيس جمال عبد الناصر وكانت نجاح ناصرية التوجّه الفكري والعاطفي وكان لها في مصر مكانة مميّزة، مع تسجيل ضعف في حضورها السينمائي ناتج من طبيعتها التقليدية في اللباس المحتشم وفي المواقف والتصرّفات، ما حَدَّ من أن تكون مثل غيرها من المتحررات اللواتي تطلبهن الشاشة أكثر من غيرهنّ.
قبل خمسة عشر عاماً تقريباً، غاب قمَر نجاح سلام شيئاً فشيئاً فلا أغنية جديدة ولا كليب جديد ولا إطلالة تلفزيونية ولا خبر عن نسمة تمرّ بجانبها، وكان أكثرنا يتواصل بالمصادفة مع ابنتها سمَر العطافي عبر الفايسبوك ويطمئن عنها.
دائماً هناك نهاية للناس وللأشياء، ولو أن الأشياء تصمد أكثر بكثير من الإنسان. صمَدت أغاني نجاح سلام أكثر منها، وستصمد كاسم كتب نفسَه بعقل وعاطفة معاً. ولم تصمد هي لا كجسد ولا كروح فارقَت الجسد، ولا خيار آخَر!