لم تكن الموسيقى التصويرية وأغاني بعض شارات المسلسلات السورية أيّام عزّها أقل حضوراً ونجاحاً من الأعمال الخالدة نفسها البعيدة عن الاستهلاك والتي شكّلت ذاكرة جزء يسير من الجمهور. استحالت التترات والمقطوعات قيمة مضافة أسهمت في انتشار الإنتاجات الدرامية وزيادة شعبيتها. ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك، نذكر: «نهاية رجل شجاع» (عن رواية حنا مينه، وسيناريو حسن م يوسف، وإخراج نجدت أنزور ــ 1994)، و«التغريبة الفلسطينية» (2004) و«صلاح الدين» (2001) للكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي، و«الزير سالم» (كتابة ممدوح عدوان، وإخراج حاتم علي).في الموسم الرمضاني ما قبل الماضي، تحقّقت المعادلة مجدداً في مسلسل «الزند» (كتابة عمر أبو سعدة، وإخراج سامر برقاوي) في ظل النجاح الكبير لشارته «رفاق الدرب» (أداء مها الحموي)، وموسيقاه التصويرية والأغاني الداخلية التي أدّتها سارة فرح. هكذا، لعبت الرؤية العصرية لعتابا وأغنيات أدّاها مغنٍّ شعبي اسمه برهوم رزق دوراً كبيراً في حصدها شعبية كاسحة، خاصة أنّ بطل العمل هو نجم بحجم تيم حسن.
صاحب هذا المنجز الموسيقي هو آري جان، خرّيج «المعهد العالي للموسيقى» في دمشق عام 2012 الذي سبق أن جرّب الابتكار عبر آلة البزق التي يعزف عليها، كما بحث في التراث السوري الغنيّ، بما فيه من مكوّنات عربية وسريانية وكردية، واستوحى من الواقع السوري الأليم بالاتكاء على ما يحمله السوريون من تنوّع وما عاشوه من مآسٍ. كما صاغ موسيقى تصويرية لأعمال درامية محلية صار عددها 11، ومروحة من الأغنيات. اشتغل مع جيل شاب ومغنيات ناشئات، كما عمل من أصالة، لكنّ لحظة تتويجه المهني كانت في أغنية «رفاق الدرب».
أعاد المخرج سامر برقاوي في رمضان 2024 تعاونه مع آري في موسيقى «تاج» (كتابة عمر أبو سعدة وبطولة تيم حسن) التصويرية. فكان قرار الشاب السوري الابتعاد عن خيار الأغنية في الشارة، والاكتفاء بالموسيقى تجنّباً لأي مقارنة مع «الزند»، باعتبار أنّ المقترح الدرامي يختلف جذرياً. لكنّه اختتم جهده الموسيقي بإعادة توزيع موّال سبعاوي شهير لأبي رياح هو «الشام لولا المظالم» (غناء سارة درويش)، ليتصل معه نشيد «في سبيل المجد» (كلمات الشاعر الراحل عمر أبو ريشة)، لكن بتوزيع جديد للموسيقي الشاب الذي يعتني بالمقال النقدي أكثر من اهتمامه بأي محتوى إعلامي قد يواكب شغله.
في حوارنا معه، نسأله عن تأخّر نجاحه في الموسيقى التصويرية، فيردّ: «عندما نريد قطف ثمرة عمل ما، الأمر يحتاج إلى مدة زمنية معينة. بالنسبة إليّ، هي السنوات العشر منذ تخرجي من المعهد... ثم إنّ الموسيقى التصويرية جزء من عمل شامل، ويجب أن تكون عملاً مكتمل الجوانب ومتماسك المعالم، انطلاقاً من النص إلى الإخراج والأبطال، ورؤية شركة...».
وفيما يرى كثيرون أنّ كعب النجاح أعلى في «الزند» على المستوى الموسيقي، يشرح آري: «أتعاطى مع المادة الموسيقية بكل صدق، وهذا ما حصل في «الزند» و«تاج». بالاتفاق مع مخرج العملين، وضعت أغنية شارة في الأوّل، وتوافقنا في الثاني على الاكتفاء بالموسيقى. علماً أنّ تحوّل الموسيقى إلى ترند أمر لا يحدث عادة، وبالتالي كان هناك شبه تحدٍّ في أن تناسب الموسيقى المرحلة الزمنية والصورة والقصة التي يقدّمها العمل... وفي الحلقة الأخيرة، جرّبنا تتويج جهدنا بإعادة إنتاج موال «بلاد الشام لولا المظالم» متصلاً بنشيد «في سبيل المجد»...».
لكن لماذا لم يكرّر آري تعاونه مع مغنيات شابات كمهى الحموي أو سارة درويش بعدما مهّد لهنّ الأرضية نحو الانتشار؟
«مجرّد البحث عن أصوات مختلفة وإعطاء فرصة للشباب مسألة مهمة، ولكن الكل يعرف واقع سوريا وانعدام شركات الإنتاج الفني فيها، لتبقى الدراما بالنسبة إلينا المساحة الوحيدة الغنية التي نستطيع عبرها تعريف الجمهور إلى أصوات جديدة... تُختصر مبادرتنا في منح هذه الأصوات الأكاديمية والمثقفة والمحترفة فرصة استماع، لكنّنا لصُنع تجربة غنائية سورية نحن بحاجة إلى شركات إنتاج وطنية».
وعمّا إذا كانت قد استطاعت الدراما السورية على مستوى التأليف الموسيقي صنع هوية للموسيقى التصويرية، أم ما زالت في خانة التقليد؟ فردّ: «حتى لو استفدنا من تجارب مكرّسة، دائماً ما كانت الهوية موجودة، لأنّه لدينا أساتذة كثيرين اشتغلوا في السنوات الماضية وأسّسوا بشكل واضح، ونحن نحاول الاستمرار على ما بدأوه. وبما أنّه يوجد جيل جديد يُفترض أن يكون التطوّر متاحاً، ودائماً نحاول إيجاد منظور مختلف لصناعة الموسيقى وهوية سمعية لكل عمل نشتغله... يوجد كثير من الأسماء الواعدة».
وحين سألناه عن استمرار العمل مع سامر برقاوي وتيم حسن و«صبّاح إخوان» كونه يحصد جزءاً يسيراً من النجاح، أجاب بأنّه «أعتقد أنّ أي شراكة تؤدي إلى نتائج جيدة، مرحّب بها بالتأكيد... كما أنّ العمل المستمر مع الفريق يجعل عناصره تلتقي عند نقاط عدّة لإظهار أي مشروع مهم بأفضل صورة... ثم إنّ تكرار الشراكة يولّد تحديات أكبر».
صحيح أنّ آري جان تجنّب الإجابة عن سؤالنا حول وجوده ضمن فريق تيم حسن في السنة المقبلة، لكن المعلومات الواردة في الكواليس تؤكد أنّ «صبّاح إخوان» وسامر برقاوي وتيم حسن يتجهون إلى إنجاز مسلسل سوري معاصر في 2025، وغالباً ما سيتولى آري جان تأليف الموسيقى الخاصة به.