تتقدّم السينما السعوديّة بخطوات واثقة داخل عالم صناعة الأفلام، بدءاً من الانفتاح الكامل نحو ظواهر سينمائية أجنبية، مروراً بإنشاء مهرجان سينمائي هو «مهرجان البحر الأحمر»، وضخ الأموال بوتيرة ثابتة لخلق صناعة تُضارع الاستوديوات الأجنبية. كُل هذه خطوات تؤسس لصناعة سينمائيّة ثابتة. واحدة من هذه الخطوات إقدام شركة نتفليكس على إنتاج فيلم «الخلاط +» الذي تطوّر بدوره من كونه مجموعة من الاسكتشات حظيت بشعبيّة هائلة على منصة اليوتيوب؛ إلى كونه فيلماً سينمائياً يعرض أربع قصص مُختلفة يحاول المُخرِج فهد العماري (هو ذاته مُخرِج الاسكتشات على اليوتيوب) تضفيرها داخل موتيف سينمائي واحد، مع اختلاف التيمات ذاتها وتفرّعها طبقاً للنوعية السينمائية. والحقيقة أنّ فيلم «الخلاط+» لم يبتعد كثيراً عن اسكتشات اليوتيوب. رغم جودته البصريّة، إلا أنّ الفيلم لم يبتعد عن كونه نمطاً اسكتشيّاً داخل إطار سينمائي، فهو لم يتفرّد على مستوى الطرح، بيد أنه نجح في اختراق المُجتمع السعودي في أكثر من طبقة، ليتحوّل إلى ما يُشبه رصداً للتغيّرات الاجتماعية التي أحدثها «الانفتاح» داخل الدولة السعودية الجديدة داخلياً. كمُنتج جريء، يمكن اعتبار الفيلم رد فعل على هذا الانفتاح، وخصوصاً في درجة اشتباكه مع المواضيع الاجتماعية لمناسبات أو أماكن تندرج تحت مسمّى التابوهات. والحقيقة أنّ المجتمع السينمائي السعودي تجاوز تلك النُقطة في أكثر من مُنتج سابق، لكنه يُعيد فتح المواضيع بشكل مُختلف هذه المرّة.
يتقصّى الفيلم أربع قصص ذات خلفيّات اجتماعيّة مُختلفة، بخطوط سرديّة مُتفرّقة، لا يجمعها سوى موتيفات تتعلّق بروح القصّة والدوافع المحفّزة، فالقصص الأربع تتمحور حول محاولات النصب والاحتيال أو الخداع الاجتماعي، وكيف يُمكن استغلال الحيل بشكل مُختلف في كُل مُناسبة أو إطار اجتماعي مُميّز، وبحسب الموقف الذي يتورّط فيه البطل ومدى خطورته. وهذا يُحيلنا إلى إشكاليّة تتعلّق بالجو العام للقصص (Mode)، فالانتقال يُحدِث خللاً لدى المُشاهد في أكثر من موضع، وخصوصاً مع تفاوت الكتابة الكوميدية كأساس للفيلم الذي يُمكن إدراجه كاسكتشات. لكن في القصة الثالثة بالتحديد، حدث ما يُشبه التحوّل الكامل لدفّة النوعيّة، والانتقال إلى نوعيّة مُختلفة تماماً على المستوى الشكلاني. نوعيّة تقع في مساحة الإثارة والغموض، وتبتعد تماماً عن الكوميديا، ما يُحدِث خللاً في الإيقاع ذاته، ليس على مستوى القصّة الواحدة، إنما على مستوى الوحدة العضوية للقصص الأربع. فالإيقاع أضحى أثقل بكثير من القصتين السابقتين، وخصوصاً أنّ القصة الثالثة تطرح وفاة رجُل في حادث سير، والآثار المترتّبة عليه والأسرار التي تُهدد سمعة الرجل وعلاقته بزوجته. جُزء كبير من القصة مُقبض، على عكس القصص الثالثة الأخرى، وخصوصاً الأولى التي تتميّز بنسق مُرتفع ووتيرة ديناميكية تظهر في مطاردات ومحاولات الشباب تخليص صاحبهم، والثانية التي تدور في مطعم فخم، يتميّز بنسق خاص ومخاطر أقل حدّة، والرابعة التي تدور في ملهى ليلي في دبي.
لم يبتعد الفيلم كثيراً عن اسكتشات اليوتيوب


اعتماد المُخرِج على صفات مثل الاحتيال والخداع للإمساك بوحدة القصص الأربع، لم يكن اختياراً سيئاً؛ غير أنّه ليس كافياً لتوحيد النسق، ولو كان الفيلم ينوّع للتجريب، لكن كتجربة أقرب في نمطها الإنتاجي للتجاري، فإنّها تحتاج إلى أكثر من صفات مُجرّدة، لتنتزع الفيلم من كيانه الاسكتشي. وعلى الرغم من ذلك ـــ إلى جانب أداء الممثلين المميز ـــــ هُناك ما يوحّد القصص الأربع داخل سياق واحد، ولو بدا هامشياً: النقد الاجتماعي المُبطّن للمُجتمع السعودي المُحافظ، كنوع من السخرية التي برع فيها الفيلم في أكثر من موضِع، وخصوصاً على مستوى الكوميديا المرتبطة بالمناسبة والموقف، فحفلات الزفاف والملاهي الليلية ومكان غسل الموتى، وحتى المطاعم الفارهة في وجود شخصيّات لا تتسق مع ذلك الرفاه، تخلق تنافراً ينعكس على القصّة وأبعادها. ولو لم يركّز المخرج على تلك النُقطة، بيد أنه لا يمنع وجودها بشكل واضح، حتى داخل شخصيّاته غير المتّسقة مع واقعها أو ظروفها. ويأتي الاحتيال هُنا كنوع من الدهاء للوصول إلى الهدف؛ تفشل تارة وتنجح طوراً، لكنها تحاول شد الأوتار، وخصوصاً مع استخدام توليف انسيابي لا يقطع بين القصص ويحاول إحداث نوعٍ من التماس بين ديناميكية الحركة وبدايات كُل قصة مُنفصلة.
والحقيقة أنّ الأصالة التي تتبدى في القصص الأربع، من حيث التوغّل في المجتمع ومحاولة الكشف عن طريق السخرية، تغفر للنزعة الكاريكاتورية في بناء الشخصيّات وحركاتها، لكنها في النهاية لا تمنح أو تتجاوز الحدود الاسكتشية، أي إنّ المُنتَج ــ رغم تميّزه في بعض المناحي ــ لا يُعبّر عن كونه سينمائياً، ويفضّل الارتداد نحو المنصات البصرية مثل اليوتيوب وجمهوره المُختلف عن جمهور السينما. فالمُنتج ذاته مُختلف على مستوى الاشتباك والشكل والصنعة الإبداعية. جاءت القصص متفاوتة في جودتها، بيد أنه يبقى مُنتجاً إبداعياً جيّداً في النهاية، وتجربة تستحق المشاهدة كأول فيلم سعودي من إنتاج نتفليكس.

* فيلم «الخلاط+» على نتفليكس