«بين الأكثر ذكاء وشجاعة وحريّة في جيلها، بطريقة تفكيرها المتحرّرة التي كلّفتها كثيراً، يوم كان الالتزام مسألة حياة أو موت» (إيتل عدنان عن جوسلين صعب)دائماً ما كان التاريخ إشكالية جدلية في واقعنا المعاصر، وخصوصاً مع أحداث مفصلية ومربكة مثل الحرب الأهلية (1975-1990) التي شكّلت تاريخ لبنان المعاصر. وضمن البحث عن سرديات قد تُعطي صورة واضحة تبتعد عن الأيديولوجيا السياسية، أو التعصّب الطائفي والمذهبي، نجد الكثير من مثقفي وفناني تلك المرحلة قد أنتجوا أعمالاً تشكل رؤية دقيقة، وخصوصاً مخرجي الأفلام الوثائقية المستقلة أمثال برهان علوية، ومارون بغدادي، وجان شمعون، ورندة الشهال وجوسلين صعب (1948 ــ 2019)… هؤلاء الذي شكّلوا موجة جديدة للأفلام الوثائقية اللبنانية التي تركت أثراً في المشهد الثقافي العربي ككل مع الخصوصية اللبنانية بتصوير وتوثيق الحرب، والمرحلة التي تليها، وأثرها إلى اليوم.
وضمن سياق أهمية الأرشيف والتاريخ في فهم الحاضر السياسي والاجتماعي، ولخلق جيل فني جديد أصيل مستقبلاً، تستعيد «جمعية جوسلين صعب» اليوم ذكرى المخرجة بمشروع ترميم أول 15 فيلماً وثائقياً أنتجتها بين عامَي 1974 و 1982، في مشروع امتد منذ 2019 حتى 2022، تمت عبرها عمليات الترميم بشكل مستقل من قبل الجمعية بالتعاون مع المنظمات الملتزمة بنشر وتثمين السينما المستقلة في الماضي والحاضر، ولا سيما Polygone étoilé في مرسيليا و post office بيروت، الذي استضاف ورش عمل تدريبية حول الترميم الرقمي نظمتها «جمعية جوسلين صعب» بالشراكة مع مشروع «سينماتيك بيروت» التابع لـ «جمعية متروبوليس».
جوسلين صعب مراسلة حربية، مخرجة سينمائية وفنانة بصرية لبنانية، تُعد من أهم المخرجين السينمائيين اللبنانيين الذي وثقوا الحرب الأهلية، فقد شكلت أفلامها جزءاً من تاريخ البلاد وأرشيفها الذي يحلل أسباب الحرب ضمن المجتمع اللبناني، ويكشف آثارها النفسية الاجتماعية قبل السياسية. ومن أهم أفلامها في هذه الثيمة «أطفال الحرب» (1976)، و«رسالة من بيروت» (1978) و«بيروت مدينتي» (1982).
لعل من أهم إنتاجات صعب في سياق التوثيق وحفظ الذاكرة والبحث في التاريخ هو مشروع «بيروت، ألف صورة وصورة» التي بدأت به بعد انتهاء الحرب، باحثة عن صور بيروت ما قبل الحرب بهدف إيجاد سحر المدينة عبر السينما، فبحثت في أرشيفات الأفلام العربية والأجنبية التي صُورت في بيروت أو تلك التي تناولت بيروت بشكل أو آخر. نتجت من هذا المشروع المادة الأساسية لفيلم «كان يا مكان، بيروت قصة نجمة» (1994) الذي احتوى على عدد من مشاهد لبنانية عربية وأجنبية تأخذك في رحلة في الزمان والمكان من بداية الانتداب الفرنسي وحتى ثمانينيات القرن العشرين، نرى عبره النظرات الاستشراقية وصور الاستعمار والفروقات الطبقية، وتعدد الهويات. نرى مدينة الحب والحرب والممنوع، ليكون الفيلم محاولة جدية من صعب في البحث عن صور للمدينة بعيدة من الحرب، نقلت عبرها جزءاً من تاريخ المنطقة إلى جيل لا يعرف عنه شيئاً.
لم يقتصر إنتاج صعب على الوثائقي، بل تابعت بحثها عن بيروت والعلاقات داخلها في أشكال فنية مثل الفيلم الروائي «غزل البنات» (1985) الذي عرض ثنائية الحب والحرب، وأثر الثانية على الأولى، كما خلق صورة عن بيروت خلال الحرب والاجتياح الإسرائيلي عام 1982 عبر نماذج اجتماعية والغوص في مفردات الذات الإنسانية التي تعيش ظروفاً مماثلة. كما أنتجت تجهيز فيديو عن المدينة خلال الاجتياح الإسرائيلي في 2006، وفيلماً تجريبياً سريالياً بعنوان «شو عم يصير؟» (2009) بحثت فيه عن «روح المدينة المفقودة» على حد تعبيرها، كما أقامت الكثير من المعارض الفوتوغرافية التي تجمع ما بين البوب آرت والسريالية في تناول الموضوعات. لم يقتصر إنتاج صعب على السياق اللبناني، فقد أنتجت أيضاً فيلماً روائياً في مصر بعنوان «دنيا» (2005) كسر الكثير من التابوهات في المجتمع العربي في تناوله موضوع ختان الفتيات في مصر.
وقد اختارت الجمعية ثلاثة أفلام تُعرض للمرة الأولى في فعالية إطلاق مجموعة أقراص DVD (بالتعاون مع «نادي لكل الناس») تضم الأفلام الـ15 المرمّمة، في «المعهد الفرنسي» في لبنان يومي 14 و15 آذار (مارس)، أنتجتها خلال الحرب الأهلية، وتنتمي إلى سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة وبعيدة من لبنان، ولكنها ترتبط بسؤال «صعب» السياسي والثوري، وهي: «الصحراء ليست للبيع» (1977، 90د) و«مصر، مدينة الموتى» (1977ــ 40 د)، و«إيران: يوتيوبيا قيد التنفيذ» (1980، 60د) يلتقط «صحراء ليست للبيع» (1977) الذي سيُعرض مساء الخميس 14 آذار (الساعة 19:30) حرب الصحراء الغربية‏ بين جبهة البوليساريو والمغرب في المدة الواقعة ما بين عامَي 1975 و1991، التي راح ضحيتها حسب بعض المصادر ما بين 10,000 و20,000 قتيل.
وبالتزامن مع حرب لبنان، ذهبت صعب إلى مصر لتصوّر ثورة الخبز في فيلمها «مصر، مدينة الموتى» (1977 ــــ الجمعة 15 مارس ـــــ الساعة 19:30) حيث تتقفى أثر الجوع في مدينة الموتى (القاهرة) حيث أساليب حياة تدمرت إثر موجات العولمة.
وأخيراً فيلمها «إيران: يوتيوبيا قيد التنفيذ» (1980 ــــ الجمعة 15 مارس ـــ الساعة 19:30) يُعدّ وثيقة مهمة عن الثورة الإيرانية ضد الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية، حيث يتأمل الفيلم ــ من خلال عيون المجتمع ــ هذه الموجة السياسية الاجتماعية الوشيكة على اجتياح عالمنا العربي.
لعله من المهم أن نشاهد أفلام «صعب» عن سياقات عربية وعالمية مختلفة، لكي نفهم مشروعها الفكري الذي يحاول أن يشرّح البنى السياسية والاجتماعية في منطقتنا عبر الغوص في المفاهيم وجذور الأحداث وليس فقط توثيقها مع أهمية عملها التوثيق في خلق ذاكرة وصورة عن الحاضر كما ذكرنا سابقاً. وما هذا المشروع إلا تعبير عن خلفية صعب اليسارية كغالبية مثقفي تلك الفترة حاملي مشاريع حقيقية، ولم تتراجع عن موقفها حتى خلال عشوائية القرن الحادي والعشرين. تجلّى ذلك في اسم مهرجان السينما التي نظمته في لبنان عام 2014 بعنوان «الثقافة تقاوم».

* عروض أفلام جوسلين صعب: «الصحراء ليست للبيع» (14 آذار/ مارس ـ س: 19:30) و«مصر، مدينة الموتى» (15 مارس ـــــ س: 19:30)، و«إيران: يوتيوبيا قيد التنفيذ» (15 مارس ـــ س: 19:30)