عندما نرى على الشاشة فندقاً مليئاً بالمراسلين العالميين، ومخيمات لاجئين، ومقابر جماعية، وجثثاً مكدّسة، ووحشية فظيعة وجيشاً مقسوماً، وخطوط تماس، وقرى صغيرة تسيطر عليها ميليشيات مسلحة... نحدس بغريزتنا أنّ أحداث الفيلم «الأميركي» الذي نشاهده، تدور في منطقنا، أو في أميركا اللاتينية أو أفريقيا. لكن في فيلم «حرب أهلية» المطروح حالياً في الصالات، يحدث كل هذا وأكثر في نيويورك وواشنطن وجميع الولايات الأميركية بسبب اندلاع الحرب الأهلية هناك. اشتعلت المعارك حين تحالفت ولايتا تكساس وكاليفورنيا مع «القوات الغربية» (WF)، بمساعدة من ولاية فلوريدا، للقضاء على الرئيس الأميركي الديكتاتور، الذي قصف شعبه بالطائرات، وتولّى ثلاث ولايات رئاسية كاملة، وهو أمر غير قانوني وفقاً لدستور البلاد.قسّم «حرب أهلية» الولايات المتحدة إلى ثلاثة فصائل مستقلة ذاتياً: «القوات الغربية»، والولايات الموالية للرئيس، وولايات «الجيش الشعبي الجديد». قد يبدو السيناريو مجنوناً، لكن الاضطرابات الناجمة عن وباء كورونا، أو أعمال الشعب الناتجة عن حملة «حياة السود مهمة»، أو اقتحام مبنى الكابيتول، والانتفاضة الطلابية التي تنتقل كالعدوى بين جامعات أميركا على خلفية الحرب على غزة، والانتخابات الأميركية القادمة، كل هذه العناصر تمنح الفيلم أهميةً وراهنيةً كبيرة. لذلك تعرض الفيلم لانتقادات بمجرد إصدار عرضه الترويجي الأول، وأثار الجدل بين الأميركيين، ولحسن الحظ، كان الضجيج كافياً، ليصبح صاحب أعلى الإيرادات على شباك التذاكر في تاريخ شركة A24. مع ذلك، فأيّ شخص يشاهد العمل، سوف يلاحظ بسرعة أنه لا يتعلق بالوضع السياسي في الولايات المتحدة بقدر ما يتعلق بقوة وسائل الإعلام، وخصوصاً المصوّرين الصحافيين.

كيرستين دانست في الفيلم

في شريطه الجديد «حرب أهلية»، يبتعد الإنكليزي أليكس غارلاند، أحد أهم المخرجين المعاصرين وكُتّاب السيناريو، عن منطقة راحته. يهرب من الخيال العلمي والفانتازيا التي قدمها في أفلامه السابقة («أكس ماكينا»/ 2015، و«إبادة»/ 2018، و«رجال»/ 2022)، ليقدم صورة حرفية وواقعية للمشكلات المتعددة التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية، سواء في الحاضر أو في المستقبل القريب. غرز غارلاند إصبعه في جرح مفتوح، بكل موضوعية وحياد، وبموقف سياسي مختصر، فيه بعض المؤشرات الترامبية (دونالد ترامب) التي لا لبس فيها، ورفض تقديم رواية واضحة أو إعطاء أسماء أو أيديولوجيات للأطراف المتنازعة، واثقاً بأنّ المشاهد واع بما يكفي لفهم كل شيء. بعيداً من الفرضية الجذابة لتوضيح أسباب الانفصال والحرب الأهلية، يسأل الفيلم عن دور الصحافة في الحرب. أسئلة ليست جديدة، لكن راهنة. فهل يجب على الصحافي توثيق الواقع فقط أو التدخل فيه؟ هل ينبغي أن يحمي نفسه عاطفياً عبر تجريد نفسه من إنسانيته؟
يبدأ الفيلم بمشهد من الحركة والعنف. ووسط قتال فوضوي وشغب في بروكلين بسبب شحّ المياه بين مجموعة من المواطنين والشرطة، نلتقي بأبطالنا، حيث ثلاثة صحافيين يغطون الحرب الأهلية: لي سميث (كيرستين دانست)، مصوّرة حروب شهيرة وخبيرة تعمل لدى وكالة «رويترز»، وصحافي يدعى جويل (فاغنر مورا)، أما ثالث المجموعة، الزميل المخضرم مما تبقى من «نيويورك تايمز»، سامي (ستيفن ماكينلي هندرسون). تنتهي مواجهة الشارع بانفجار عنيف يهز المدينة، حيث تنقذ لي مصوّرة شابة ومتحمّسة تدعى جيسي (كايلي سبيني، نجمة فيلم «بريسيلا» الأخير لصوفيا كوبولا)، تحلم بأن تصبح مصورة صحافية حربية. بعدما انتهى اليوم الدامي، يجلس الزملاء في بهو فندق يجتمع فيه الصحافيون، ليقرّروا السفر بالسيارة من نيويورك إلى واشنطن لمحاولة إجراء المقابلة الأخيرة مع الرئيس الأميركي (نيك أوفرمان) قبل استيلاء التحالف الغربي على البيت الأبيض. ينطلق الأربعة في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر والمغامرات تمتدّ 800 كيلومتر تقريباً. تُعدّ لي مدرسة في الصحافة الحربية، بينما جويل العمليّ يسعى إلى الذهاب إلى أبعد الحدود، والمخضرم سامي منارة أخلاقية، صحافي الحرس القديم، وجيسي الأقل خبرة والأكثر جرأة، ترغب في التقاط تلك الصور الرائعة ولو خدش الرصاص صدرها وظهرها.
وقّع اليكس غارلاند على أفضل أعماله، إذ صاغ إيقاعاً مبهراً للحرب من كل جوانبها، مقدّماً واحداً من أفضل الأفلام لعام 2024، ومعياراً جديداً لسينما الحرب المعاصرة. ومع تعزيزه بجانب وثائقي، حوّل غارلاند «حرب أهلية» من فيلم حرب وعنف وحركة، إلى معضلة أخلاقية حول الصحافة الحربية ومحترفي المهنة. اللافت هو قدرة المخرج على إشراك الجمهور في القصة وشخصياتها وإسقاطها على السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الحالي، بينما يسعى جاهداً إلى الحفاظ على ثبات القصة، مراهناً على الواقعية والنظرة الموضوعية والمبدأ المحايد للصحافيين المنخرطين في الحرب. ليس هناك من مجال لأحكام أخلاقية أو عاطفية أو تفسيرات مفرطة، فقسوة الحرب المعروضة على الشاشة وتفاعل الصحافيين معها ومع بعضهم يقول الكثير.
يصل الفيلم إلى ذروته في النصف ساعة الأخيرة، حيث ارتباك كامل يعمّ البلاد وأذهان الناس. قرى وبلدات محترقة، سكان يتضوّرون جوعاً وعطشاً، وبعضهم للدماء (مثل المشهد المخيف الذي يظهر فيه جيسي بليمونذ بدور رجل الميليشيات)، وانعدام كامل للأمن، واشتباكات في كل مكان، ومقابر جماعية، حتى المقاتلين لا يعرفون هدف قتالهم، كأن الأمر لم يعد مهماً، كأن الأسباب قد نسيت، لأن الأهم هو القتال المستمر. والسؤال: «أي نوع من الأميركيين أنت؟». ولكن قبل أي شيء، يجب القضاء على الرئيس في مشهد أخير يترك أدمغتنا مشوّشة، بمعضلات أخلاقية كثيرة.
بعيداً من اللمسات الفكاهية غير المتوقعة، فإن «حرب أهلية» هو فيلم جدي جداً. ورغم أنه ليس واضحاً الجانب السياسي الذي ينحاز إليه الصحافيون (فهم يرون أنفسهم محترفين ومحايدين)، إلا أن غارلاند يحمّل عبء إضفاء الطابع الإنساني الذي يتناقض مع الطابع المهني على الجميع تقريباً، من دون أن ينتقدهم، لأن الصحافيين قادرون على اتخاذ مواقف نبيلة وسخية، إضافة إلى قرارات قاسية وأنانية. شيئاً فشيئاً، يبدو الأبطال الصحافيون أنّهم فقدوا حساسيتهم وإحساسهم بالواقع لشدّة ما اختبروا من قسوة، فيصبحوا أكثر اهتماماً بالحصول على أفضل صورة أو بيان صحافي، حتى إنّهم يتنافسون مع الصحافيين الآخرين الذين يصادفونهم في طريقهم. إضافة إلى شخصياته المصمّمة بشكل مثالي التي تُشيد بالمصوّر الصحافي، يُعد الفيلم مثالياً من الناحية السنيمائية. غارلاند نفسه مع المصور السينمائي روب هاردي رائعان مرة أخرى في جمعهما بين النهج الوثائقي والحركي لسينما الحروب. يجب الاعتراف بأنّه قد مر وقت طويل منذ أن واجهنا هذه المستويات العالية من التوتر في السينما.
حوّل غارلاند «حرب أهلية» من فيلم حرب وعنف وحركة، إلى معضلة أخلاقية حول الصحافة الحربية

يسيطر التشويق في بعض المشاهد ويضخ الحقيقة في مشاهد الحركة، ويضعنا في منتصف القتال مع الكاميرا في خط النار الأمامي. حركة الكاميرا، أثناء البحث عن إطارات تصلح لتكون صوراً ثابتة يلتقطها الصحافيون، تعزّز الارتباط بالواقع وتقترب من أبعاد التصوير الفوتوغرافي الكلاسيكي، ما يجعل الفيلم مناسباً كألبوم صور حروب، وكل صورة منه تستحق جائزة «صورة العام الصحافية العالمية». المشاهد أطول من المعتاد، واستخدام الصمت صادم، ومزج الصوت غير عادي، واختيار موسيقى تبتعد عن أي نموذج كلاسيكي لسينما الحروب، يعزّز من قوة الفيلم. هناك أغنيات لفرقة Suicide، بصوت خشن وداكن جداً، تظهر في لحظات غير متوقعة في خضم المعارك الدموية.
يفقد غارلاند أعصابه بشكل إيجابي، ويبالغ في القسوة. في مشاهد عدة، يبدو أن ما يصل إليه الفيلم هو فكرة أنّ لا أحد على حقّ، ولا مخرج ممكناً من الوضع الحالي. قد يكون الرئيس ديكتاتورياً، ولكن من يواجهونه لا يختلفون عنه. حتى بعض الصحافيين، الذين يحاولون الحفاظ على منظور أكثر إنسانية، يواجهون مبادئ عملهم الصحافي، التي تعبّر عنها لي بجملة «بمجرد أن تبدأ بطرح الأسئلة، لا يمكنك التوقف. لذلك نحن لا نسأل. نحن نوثّق الواقع حتى يسأل الآخرون».
نجح الفيلم في تجنّب الوقوع في فخ إعطاء المشاهد إجابات واضحة. قدم غارلاند فيلماً يهاجم الجمهور بقسوة ولا يرفّه عنهم. يُظهر الخط الرفيع بين النجاح والعمل الأخلاقي للصحافة، وخصوصاً في المواقف المتطرّفة. بدلاً من اتباع البوصلة الأخلاقية، تنتصر الرغبة في الحصول على صورة قوية في كل مرة. ولو أثارت هذه المشاهد القاتلة خوفاً جنونياً لدى الصحافيين، فإنها توقظ فيهم مشاعر أخرى، تصفها جيسي بأنها مزيج من الخوف والإثارة تجعلهم يشعرون بأنّهم أحياء! يتركنا الفيلم مع الصحافيين الذين يستغلون كل فرصة لالتقاط أفضل صورة، وفاء لشعار «كلما كانت وحشية أكثر، كلما كان ذلك أفضل». في البداية، يبدو الأمر للمشاهدين غريباً وغير أخلاقي، لكن قبل أن تدرك، تبدأ أنت كمشاهد بنفسك بتقييم الصور التي تُعرض باستمرار بناءً على جودتها وموضوعها ووحشيتها!

* Civil War في الصالات