دمشق | كان قد عوّد جمهوره ومحبيّه على حضوره الذي يأخذ من اسمه نصيباً وافياً، وعلى فنّه السهل الممتنع. لذا كان منطقياً للسينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد (1954 ــــ 2024) حزم حقائبه والرحيل بخفّة وهدوء ينسجم مع صيغة حياته! من دون مقدّمات ولا حتى إنذار، مضى صاحب الابتسامة التي لم تفارق وجهه، تاركاً ذاكرةً لأجيال متعاقبة استطاع أن يبني لها علاقة وطيدة مع لعبة الضوء والعتم والتورّط في السينما حتى أضحت شخصيات أفلامه مضرب مثل!يمكن لأصدقائه ومعايشيه أن يكتشفوا حجم الخذلان الذي أصابه بعدما رحلت قبل أعوام رفيقة دربه وزوجته مصمّمة الأزياء لاريسا عبد الحميد، فصار وحيداً يطمئن عليه كل بضع ساعات صديقه المخرج جود سعيد، وخصوصاً أنّ ابنته الوحيدة تعيش في إيطاليا، وقد خضع قبل مدّة لعملية قلب مفتوح. وأول من أمس، انتبه أحد جيرانه بأنه يعاني من ذبحة قلبية، فاتصل فوراً بالإسعاف وبجود سعيد. وما إن وصل إلى مستشفى «دار الشفاء» في دمشق، حتى غادر الحياة.
في مشوار الراحل الشخصي الكثير من التباينات والدراما. لذا كان منطقياً أن ينطلق منها ليصنع أفلاماً تصوغ، بلغة فريدة ومنطق متمايز، جزءاً يسيراً من ذكرياته وذاكرته الريفية، فحقّقت معادلته البصرية انتشاراً واسعاً، إلى درجة يمكن معها القول بأنه كان أشهر سينمائي في تاريخ سوريا. منذ ذلك الفيلم الذي عرضته سينما متنقلة للجيش في الجولان عام 1961 وكان من بطولة نجاح سلام التي غنت «ميّل يا غزيّل»، وصودف أنه أوّل شريط يحضره الطفل عبد اللطيف عبد الحميد الذي كان يمضي خلف والده العسكري الذي جاب الأراضي السورية في خدمته، إلى آخر ليلة عاشها، خاض عبد الحميد مشواره الخاص الذي أراده، فصنعه بيمنيه، وكانت سمته الإبداع والإصرار على الإنجاز، ولو من العدم أو الفتات في أحسن الأحوال!
في صغره، كانت أمّه مثلاً تصفّر لتطرد بنات آوى، ما أوحى له بفيلمين حققا نجاحات ساحقة هما «ليالي ابن آوى» (1989) و«رسائل شفهية» (1991). بعد ذلك، انتقل إلى الرومانسية، وقدّم «نسيم الروح» (1998) فأوقف الشارع السوري، وكرّس في مرّات قليلة مفهوم فيلم شبّاك التذاكر. ثم بطريقة مواربة، كنوع من الاحتيال المشروع على الرقيب، خاض في خلفيات المعتقلات السياسية وقدّم ما يشبه التحية لمعتقلي الرأي في «خارج التغطية» (2007)، إضافة إلى تجارب كثيرة تثبت بأنّ أوكسجين الرجل هو العمل الدائم، يعرف كيف يصنع أفلاماً بميزانيات متواضعة هي ما يتاح له من القطاع العام.
مع ذلك، لا يمكن المرور على السينما السورية، إلا بعد التوقّف الملي عند أحد أركانها وأعمدتها ولو أنّ السنوات الأخيرة جعلته يغيّر طريقة شغله ويختار قصص حب يقترحها بمنطق مكثّف يساير فيها الإمكانات المتواضعة المتاحة لدى القطاع العام لإنتاج الأفلام. ولن يتمكّن أحد من سحب لقب «الساحر» منه كونه كان يقبض على قلوب الجمهور بضربة واحدة، ويجعله يلحق به حتى عندما تُعيد الفضائيات تقديم أفلامه. ورغم أنّه كان يجرّب في بعض أفلامه الأخيرة أن يترك احتمالات مفتوحة على دلالات متعددة، ورمزية عميقة، عن دمشق المدينة التي أكلتها الحرب، وصارت الهجرة عنها واجباً، لكن العودة إليها يبقى بمثابة حلم يلتهمه الحنين اليومي.
أمضى الراحل أكثر من 40 عاماً منذ تخرّجه من معهد السينما في موسكو وحتى وفاته منهمكاً في العمل المتواصل، إلى درجة أنّه صنع تاريخاً صريحاً ومرجعياً في السينما السورية. ولعلّ اللحظة الأكثر صدقاً في آخر ظهور له عندما صعد على المنصّة ليقدّم فيلمه «الطريق» وأفراد فريقه للتحية، فحكى عن رفيقة دربه وزوجته الراحلة مصمّمة الأزياء لاريسا عبد الحميد وغصّ بالبكاء كونها غادرت أثناء إنجازه الفيلم. سالت دموعه كأنه يحفز وجدان الصالة الصامتة، ثم عاد ليستجمع قواه ويشرح كيف مضت قبل أن ترى الشريط، فأهداه لها على الشارة، لكنه عجز عن فعل مشابه لشريكه في كتابة السيناريو وصديقه الشاعر عادل محمود الذي دخل في غيبوبة قبل عرض الفيلم الأوّل في قرطاج، وغادر بعد فوزه بجائزة أفضل سيناريو بساعات قليلة!
صاحب «ليالي ابن آوى» صنع برحلته الآسرة نموذجاً متّقداً في الانتماء لروح الشباب وهزم عدّاد العمر، وقهر النوائب ولو كانت بالفقد والوحدة والمرض والسخرية من ضنك الحياة وعتمتها وقسوتها المفرطة التي نعيشها في الشام!

يشيّع جثمان الراحل من مستشفى «ابن النفيس» في دمشق اليوم إلى قريته البهلولية في محافظة اللاذقية، ويوارى الثرى بعد صلاة العصر في مقبرة القرية. تقبل التعازي أيام الجمعة والسبت والأحد في مبرة القرية، ويوم الأحد 19 أيار (مايو) في صالة نقابة الأطباء في دمشق أبو رمانة من الساعة السادسة حتى الثامنة مساء