يخسر لبنان سنوياً أكثر من 95 مليون دولار كمعدل وسطي من «عجن» النفايات و»دفنها» تحت الأرض (علماً أن هناك دراسات تقول أن الكلفة تصل إلى 200 مليون دولار سنوياً)، وقد كبّد هذا القطاع البلديات كلفة تصل إلى اكثر من ملياري دولار منذ عام 1995 لتغطية عقود النفايات في بيروت، ونحو 292 بلدية في جبل لبنان، هذا دون احتساب الأموال التي صرفت على تجهيز البنى التحتية وإنشاء المعامل وشراء الآليات والحوافز المالية للبلديات المحيطة بمطمر الناعمة- عين درافيل، ودون احتساب كلفة التدهور البيئي الناتجة عن هذه الطريقة في «اللامعالجة» التي يقدرها البنك الدولي بـ10 ملايين دولار سنوياً. على الرغم من كل المبادرات والحلول التي قدمها الخبراء البيئيون، والتي تبرز الجدوى الاقتصادية من فرز النفايات وتدويرها، لا تزال الدولة تصمّ آذانها، وتنتقل من خطة طوارئ إلى أخرى. يرى رئيس الحركة البيئية بول أبي راشد أن لبنان يمكن أن ينتقل من حالة الخسارة إلى حالة الربح أو على الأقل التعادل اذا جرت إدارة النفايات على نحو صحيح انطلاقاً من مبدأ الفرز من المصدر (المنزل، المدرسة، المكتب، الفندق، المطعم...)، إذ تبين الدراسات أن 90% من النفايات الصلبة في لبنان هي نفايات منزلية، تحتوي في 55% منها على مواد عضوية والنسب الباقية تتوزع بحسب الآتي: 15% من الورق والكرتون، 12% البلاستيك، 5% الزجاج، 3% المعادن بينها 1% من الألومنيوم، 10% نفايات أخرى، أي إن نسبة 90% من النفايات قابلة للمعالجة عبر عملية التدوير وإعادة التصنيع أو التسبيخ (تخمير) للمواد العضوية لتتحول إلى مواد محسنة للتربة.
يشرح أبي راشد أن منتجات النفايات هي بضاعة يمكن بيعها إلى مصانع محلية والاستفادة منها كمواد أولية في الصناعة. فبحسب دراسة أعدتها الحملة الوطنية من أجل معالجة النفايات المنزلية الصلبة، نقلاً عن مصادر في «جمعية الصناعيين في لبنان»، أكثر من 70% من المواد المعاد تصنيعها مستوردة من الخارج، في وقت يطمر فيه لبنان هذه المواد الموجودة في النفايات تحت الأرض لتلويثها والمياه الجوفية أو حرقها لتلويث الهواء، إذ يبلغ سعر طن الورق بحده الأدنى 60$، وطن البلاستيك 200$، وطن الزجاج 60$، وطن الحديد 200$، وطن الألومنيوم 1200$، وطن المواد العضوية بعد تحويلها إلى سماد 150$، وبذلك تتحول النفايات من عبء إلى مورد، ومن تهديد إلى فرصة، بشرط أن تُفرز مسبقاً، وألا تُخلط المواد الصلبة مع المواد العضوية، لأن ذلك يقلل من نوعية الناتج ويلوثه بمواد خطرة في كثير من الأحيان. ويضرب أبي راشد مثلاً على ذلك انه إذا رُمي ميزان حرارة الذي يحتوي على معدن ثقيل، هو الزئبق، مع المواد العضوية فإنه يلوثها، ويصبح السماد الناتج عنها ملوثاً أيضاً بمادة الزئبق، وبذلك يتنقل من التربة إلى الثمرة ومن ثم إلى الانسان.

يقول أبي راشد إن
طناً من النفايات يمكن أن ينتج 117$ من سماد وتدوير وRDF


يكشف أبي راشد في دراسة أعدها أن طناً من النفايات يمكن أن ينتج 117$ من سماد وتدوير وRDF (عوادم تستخدم لإعادة تأهيل الأماكن المشوهة كالكسارات)، فإذا طرحنا كلفة النقل والتشغيل المقدرة بـ 57$ لأن النفايات ستنتقل إلى مراكز معالجة قريبة من المصدر في الأقضية بعد أن يتم تفعيل دور البلديات، يصبح ناتج هذه العملية 60$، أي أن الدولة في حال اعتمادها على هذه الطريقة في معالجة النفايات يمكن أن تربح 60$ في كل طن نفايات، أي ما يعادل 86.4 مليون دولار، ولكن في أسوأ الأحوال، يقول أبي راشد، لن تخسر شيئاً، وهذا مثبت بالتجربة العملية.
حوّل أبي راشد مركز جمعية الأرض التي يرأسها إلى مركز فرز للنفايات في مساحة لا تتعدى 500 متر مربع، ويقع في منطقة سكنية وتجارية بامتياز في منطقة بعبدا، يجاوره فرن للمناقيش وصيدلية ومكاتب لمؤسسات مختلفة، لكنك بالكاد يُلحظ وجود نفايات، علماً أن المركز يستقبل إلى جانب النفايات المفروزة نفايات عضوية يقوم بتسبيخها، والمدهش أنه لا أثر لروائح مقززة، أو مناظر منفرة، وحين يُسأل أبي راشد عن المواد التي يستخدمها لإزالة الروائح يبتسم: «السر في أوراق الشجر»! لكن اللافت أيضاً أن الناس متجاوبون ويأتون بالنفايات مفروزة من منازلهم.
تجربة أخرى ناجحة في بلدة عربصاليم الجنوبية، عمرها أكثر من عشرين عاماً، تقوم على المبدأ نفسه، اي الفرز من المصدر وتدوير المواد الناتجة عن النفايات عبر بيعها إلى المصانع، «المشروع لا يزال مربحاً على الصعيد البيئي لكن ينقصه تدخل الدولة على الصعيد الاقتصادي»، تقول رئيسة جمعية نداء الأرض التي تبنت مشروع الفرز في البلدة زينب مقلد، أولاً لوضع حد أدنى لأسعار المفروزات، «فالمجتمع المدني والأفراد متروكون لجشع ومزاجية التجار وأصحاب المصانع الذين يحاولون قدر استطاعتهم تخفيض أسعار شراء المواد المفروزة»، وثانياً وهو الأهم دعم قطاع صناعة التدوير، «فبعد حرب تموز 2006 أغلقت العديد من المصانع أبوابها في منطقتي الجنوب والبقاع الغربي لأن الدولة لم تعوّض الخسائر الاقتصادية والإنشائية التي تكبدتها جراء الحرب، وبذلك فقدت منطقة الجنوب لمصانع كانت تعمل على إعادة التدوير والتصنيع، فقلّ عددها واضطررنا إلى دفع كلفة نقل مضاعفة لنقل المواد إلى مصانع أبعد في بيروت أو في البقاع، مما يضطرنا أحياناً إلى أن ندفع الأموال من جيوبنا ومن اشتراكات الجمعية التي لا تتلقى تمويلاً من أحد، مع ذلك فنحن مستمرون بأمكانياتنا البسيطة»، تعلق مقلد.
إذاً، لا يحتاج هذا الخيار إلا إلى إرادة، والتخلي عن عقيلة «السمسرة» التي تنتهجها الدولة في مقاربتها لكافة الملفات إضافة الى قليل من الموارد، لكنه يوفر على الدولة الكثير، ويوفر العديد من فرص العمل في مختلف المناطق ومختلف المجالات، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يعمل في معامل فرز النفايات طلاب الجامعات لتأمين أقساطهم السنوية، لكن الأهم أنه يعيد قطاعات صناعية مختلفة إلى الحياة، مع ما يعنيه ذلك من إنتعاش للاقتصاد الوطني وتأمين المزيد من فرص العمل للشباب الذي تُستثمر طاقاته في الخارج، إذ تكشف دراسة الحملة الوطنية التي أعدت عام 2003 أن عدد المصانع العاملة في إعادة تصنيع الورق والكرتون انخفض من 20 مصنعاً إلى ستة فقط، بسبب السياسات الخاطئة للدولة، في وقت تمثل فيه النفايات الورقية ما نسبته 15% من حجم النفايات الصلبة أي حوالي 600 طن يومياً! يعمل اليوم في قطاع الورقيات خمسة مصانع فقط، وفي قطاع البلاستيك حوالى 15 مصنعاً، واثنان في قطاع الزجاج وتقتصر أعمال تدوير الزجاج على الأبيض منه، أما الأخضر فلا يوجد في لبنان حالياً مصنع لإعادة تدويره، وهناك حوالى عشر مؤسسات عاملة في جمع وتصدير خردة المعادن على أنواعها، ولا توجد في لبنان أيضاً صناعات تدوير الحديد أو المعادن حالياً.