د. سهيل قعوار
أثار السادة المطارنة الموارنة أخيراً موضوعاً يجده كثير من اللبنانيين مقلقاً، ألا وهو الزيادة الكبيرة في تملك الأجانب للعقارات في لبنان، سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة، وتراوحت ردود الأفعال بين تخوف البعض من فقدان السيطرة على أحد مكونات الثروة الوطنية، فيما ذهب آخرون إلى حد المقارنة بما حصل في فلسطين في القرن الماضي من بيع لأراضٍ عربية (قسم منها مملوك من لبنانيين) إلى مستوطنين يهود. واستجلب بيان المطارنة ردوداً مسفِّهة للمخاوف (بيان وزارة المال) موضحة أن حجم تملك الأجانب من الأراضي ما زال أقل بكثير من السقوف المسموحة بموجب القوانين النافذة.
وكما هو متوقع في ظل الانقسام السياسي الحالي في لبنان، حاولت ردود الأفعال استخدام مضمون البيان للنيل من الحكومة الحالية أو للدفاع عنها، وكان بعضها مصحوباً بعنصرية وشوفينية لتسجيل نقاط قد تلقى صدى لدى العامة، نظراً لكون التملك يتم من مستثمرين عرب، بمن فيهم فلسطينيون، مع ما يثير ذلك من تخوف من مسألة التوطين... ونرى أن هذه الردود لم تتطرق إلى الآثار الاقتصادية لتملك الأجانب، وبالتالي، فإن الطروحات المذكورة للآن ليست كافية لحساب المصلحة الوطنية الصافية من عمليات البيع والشراء، وهو الحساب الواجب إجراؤه قبل اعتماد أي خطوات لحظر أو خفض للسقوف المسموحة حالياً... وسنحاول في ما يلي إبراز بعض هذه الآثار:
نفترض أولاً أن عمليات التملك تتم برضى الأطراف المشاركة في العملية، وفي ظل أفضل المعلومات المتوافرة عن الأوضاع السائدة في سوق العقارات. من هذا المنطلق، فإن البائع لا يرى نفسه مغبوناً، بل هو يفضل الثمن الذي تلقاه على الاحتفاظ بملكه العيني. والمشتري يرى أن قيمة العقار الذي حصل عليه هي أعلى من المبلغ النقدي الذي تخلى عنه. لذا فإن الطرفين يريان أن التبادل مفيد لكليهما. إن هذه العملية ذات منفعة صافية لكل منهما بغض النظر عن الدوافع، التي قد تكون الحاجة المادية للبائع اللبناني، والاستثمار وتوزيع المخاطر بالنسبة إلى المشتري الأجنبي.
لكن الأثار الاقتصادية تتجاوز الأطراف المشاركة مباشرة في انتقال الملك العيني. إذ يؤدي السماح لتملك الأجانب، سواء كان ضمن قيود أو بدون قيود، إلى زيادة الطلب الإجمالي على العقارات في السوق المحلي، وبالتالي إلى رفع مستويات الأسعار، وهو ما يؤدي في فترة لاحقة إلى زيادة العرض وحجم المبادلات، كما يسمح بالاقتراض بضمانة العقارات التي زادت قيمتها. نعتقد أن لارتفاع قيم العقارات وحجم المبادلات العقارية آثاراً إيجابية على القدرات المعيشية للطبقة المتوسطة في لبنان لكونها تقلص انعكاسات الضائقة الاقتصادية التي يعانيها لبنان منذ حوالى عقد من الزمن. وهذا ينطبق بشكل كبير على منطقتي جبل لبنان وبيروت حيث تقل المساحات الفردية للعقارات، وتكثر أعداد الحيازات العقارية ولا يوجد كثافة ذات أهمية لتركز الملكية ضمن أفراد أو مجموعات صغيرة. وكما هو متداول، فإن هاتين المنطقتين شكلتا محور استقطاب المشترين الأجانب.
نرى أن مبيعات العقارات في العقد الحالي (وهو الذي شهد تباطؤاً ملحوظاً في نمو الاقتصاد والدخل الفردي وتراجعاً في مستويات المعيشة)، سمحت لشريحة اجتماعية قد تكون واسعة بالصمود في وجه ضائقة اقتصادية، وربما وفرت للبعض القدرة على تمويل تعليم أبنائها والمحافظة على مستوى معيشة مقبول. وحتى عندما لم تضطر أسر إلى بيع ممتلكات، فإن ارتفاع أسعار العقارات ربما وفر لها قدرة إضافية على الاقتراض، سواء من المصارف أو من الأهل والمعارف، ما أعطى فرصة إضافية للصمود في انتظار تحسن الأوضاع الاقتصادية.
في رأينا، أن البديل من هذه القدرة على تمويل الإنفاق الأسري الأساسي، ربما كان زيادة في الهجرة إلى الخارج. وكما هو معلوم، فإن النمو الكبير في اقتصادات دول الخليج في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى حالة الركود في الاقتصاد اللبناني، استقطب أعداداً كبيرة من الشباب اللبناني المؤهل علمياً وتقنياً، وهو ما سمح بنمو كبير في حجم التحويلات الداخلة إلى لبنان.
من ناحية أخرى، فإن لارتفاع القيم العقارية وحجم المبادلات العقارية أثراً مفيداً على المالية العامة وماليات البلديات من خلال الرسوم العقارية على عمليات الشراء وعلى الرسوم السنوية على الأملاك المبنية وعلى القيمة التأجيرية. إضافة، فإن عمليات البناء الجديدة تولد طلباً إضافياً على مختلف أنواع العاملين في قطاع البناء وعلى التجهيزات المختلفة المطلوبة لتحضير المبنى للسكن. كما أن انتقال شقق أو أبنية موجودة وغير مأهولة إلى مالك أجنبي يحرر الأموال المجمدة، ويسمح بإعادة استثمارها في مجالات أخرى، ما يعطي دافعاً إضافياً للحركة الاقتصادية.
في المقابل، فإن ارتفاع أسعار الشقق المبنية يفاقم من مصاعب الشباب في إيجاد مساكن ملائمة، وبالتالي الشروع في بناء أسرهم وتحقيق الاستقرار الاجتماعي الذي يشكل هدفاً أساسياً من التطلعات الإنسانية. وقد تؤدي هذه المصاعب إلى تحفيز الشباب على الهجرة.
نرى مصلحة كبيرة للبنان لأن يولى الطلب الخليجي على العقارات نظرة متعاطفة ومتقبلة، نظراً لأهمية تنمية وتقوية العلاقات الاقتصادية بين لبنان وهذه الدول. ويعود ذلك إلى سببين رئيسين، وهما: أولاً، اعتماد لبنان الكبير على انفتاح دول الخليج على العمالة والمهارات اللبنانية التي تشكل حالياً صمام أمان للصمود الاجتماعي في لبنان من خلال تحويلات العاملين في الخارج إلى أسرهم. وثانياً، إلى إسهامات حكومات دول الخليج في تقديم الدعم المالي للدولة اللبنانية وقيام المستثمرين الخليجيين بإنشاء المشاريع التجارية في لبنان.
لن نتطرق إلى موضوع تملك الفلسطينيين في لبنان نظراً لحساسية هذا الموضوع ولسوء استخدام السياسيين له في الاتهامات والمزايدات على الخصوم، لكننا نلفت إلى أن الوجود الفلسطيني في لبنان مستمر منذ حوالى 60 سنة ولن يتقلص في المنظور القريب في ظل ابتعاد التسوية العادلة للمشكلة المحورية في الشرق الأوسط. ونعتقد أن للبنان مصلحة في الاستفادة من العمالة الفلسطينية الموجودة لديه، بدلاً من استيراد عمالة من دول مختلفة وخسارة قسم من أجورها التي تتحول إلى الخارج.
في الختام نرى أن المعالجة المفيدة للموضوع تكون بحساب كل مكونات المصلحة الوطنية من الآثار المختلفة التي أشرنا إليها. رأينا الشخصي أن للبنان مصلحة صافية في إرخاء القيود المفروضة حالياً على التملك العيني. فالأراضي والعقارات ستبقى في لبنان، ولن يكون مالكوها قادرين على أخذها معهم إذا تغير تقويمهم للأوضاع في لبنان. نود فقط لفت نظر السادة المطارنة إلى أن عدم تحسين الأوضاع المعيشية بقدر كاف في لبنان سيزيد من الهجرة المسيحية الدائمة إلى بلدان الاغتراب في الاميركيتين وأوستراليا، لكون هذه الأماكن قد تكون أكثر تقبلاً للهجرة المسيحية نظراً لزيادة تخوف الكثير من الدول من هجرة المسلمين. ونعتذر عن هذه الإشارة الفظة، لكن غير المجافية للواقع العالمي الحالي.