لم يلمس اللبنانيون حتى الساعة مفاعيل خطة وزارة الداخلية الرامية إلى تنظيم قطاع اللوحات الإعلانية. هذه الخطة أعلنها الوزير مروان شربل عام 2011. حينها، وعد بإزالة اللوحات غير المرخصة فوراً، ونزع تلك المرخصة والمخالفة للشروط القانونية للمرسوم 8861 بانتهاء مهلة الترخيص، على أن لا تتجاوز هذه المهلة نهاية ذلك العام (أي 2011)، «لكي لا تتحمل البلديات أعباء النفقات جراء إبطال العقود المبرمة مع المعلنين».
ومن ثم، تتالت الاجتماعات والمفاوضات، إلا أن الحال بقيت كما هي: شوارع لبنان وأوتوستراداته، ما زالت تشهد انتشاراً فوضوياً كثيفاً للوحات الإعلانية، على الرغم من اللقاءات الحثيثة التي عقدت عام 2012 بين الشركات الإعلانية والوزير شربل لإيجاد حلّ للمسألة. فكثيرة هي الملفات التي تُفتح، فتشغل الإعلام، وينشغل بها المواطنون لفترة، ومن ثم تقبع في النسيان، إلى أن يأتي مسؤول جديد، يطلق الوعود من جديد، دون تغيرات ملموسة.
ينفي نائب رئيس نقابة أصحاب الشركات الإعلانية جورج شهوان أن يكون هناك أي انفلات في هذا القطاع، مشدداً على أن (الوزير) «شربل ينظمها بنحو كامل ويضبط الأمور»، لكنه يفضّل عدم التطرق إلى هذا الموضوع الآن؛ لأن الشركات تنتظر تشكيل الحكومة لكي تجتمع بوزير داخليتها وتتفاوض معه.
لكن المسألة لا تتعلق فقط بتطبيق قانون ما، أو بتجميل الطرقات، أو بحماية البيئة، بل هي مرتبطة مباشرة بشروط السلامة العامة، وخصوصاً في ظل انتشار اللوحات الإعلانية التي تبثّ عبر تقنية الفيديو المبهرة بأضوائها، ما يؤدي إلى تشتيت نظر سائق السيارة وتركيزه، لثوانٍ قليلة، قد تكون كافية للاصطدام... وحينها يكون البكاء.
في هذا السياق يؤكد شهوان أن «ما من شيء يمنع الشاشات المتحركة على الطرقات»، لكن مستشار وزير الداخلية ريمون مدلج ينفي ذلك نفياً قاطعاً، موضحاً أنه يجري الطلب فور رؤية الفيديو من آمر فصيلة الدرك في منطقة وجوده للعمل على إطفائه أو استبداله بلوحة عادية. ويكشف أنه قد أُطفئت ثلاث لوحات حتى الآن بين الدورة والضبية. لكن انتشارها على كامل الأوتوستراد الممتد من الكرنتينا حتى جونية (وفي شوارع في بيروت) لا يخفى على أحد. ورداً على سؤالنا عن سبب عدم إزالتها كلها، يطلب مدلج التروي ويقول: «الله يساعد الدرك، فبين الحين والآخر يحدث انفجار من هنا أو هناك، وينشغل الجميع به، فنحن نتابع الأمور، لكن المسألة بحاجة إلى الوقت».
لكن هل يجوز، بحجة انفلات الوضع الأمني وانتشار التفجيرات، إهمال سائر الأمور التي تشكل خطراً على سلامة المواطن؟ فحوادث السير الناتجة من عوامل عدّة، ومن بينها وضع الطرقات عموماً وانتشار وسائل التلهّي عليها، ومن بينها الإعلانات والفيديو، تحصد سنوياً مئات الأرواح. وهنا، يشرح أمين سرّ جمعية «اليازا» كامل إبراهيم أنه «إذا جُمعت أعداد الذين استشهدوا جراء التفجيرات، أو قتلوا في الأحداث الأمنية في البلاد، فلا يصل الرقم المحصود إلى عدد الذين قضوا بحوادث السير، هذا فضلاً عن الجرحى». ويعبّر عن أسفه لكون متابعة المخالفات لا تشكل أولوية لدى الدولة اللبنانية، مشيراً إلى أن «لا رقابة جدية على الإعلانات ولا على أي شيء متعلق بموضوع السير عموماً».
ويوضح أن عدد قتلى حوادث السير يقدّر بالـ900 شخص سنوياً في لبنان، لافتاً إلى أن الأرقام الأولية لعام 2013 تظهر سقوط نحو 560 قتيلاً على الأقل، أي أكثر من كل الجرائم الحاصلة في لبنان جراء تفلّت الأوضاع. هذا ويصل عدد الجرحى سنوياً إلى 12 ألف شخص. ورغم عدم إمكانية الجزم بأسباب حوادث السير، نتيجة «عدم جدية التحقيقات»، فهو يشدد على ضرورة إلغاء كل ما يسبب وسيلة تلهي على الطرقات، ولا سيما على الأوتوسترادات حيث السرعة الكبيرة، داعياً إلى «إلغاء الفيديو، أو على الأقل تنظيمه وبحث صيغ جديدة له».
إلا أن مستشار وزير الداخلية ينفي أن تكون الحملة التي بدأت منذ عام 2011 قد انتهت، مشيراً إلى أن «من ينظر جيداً إلى الطرقات يلاحظ أن مخالفات عدّة قد أزيلت». ويوضح أنه ضُبط 60% من الإعلانات المخالفة، وخصوصاً في جبل لبنان، لافتاً إلى أنه يجري العمل على ضبط المسألة في بيروت، إلا أن الأمر متعلق أيضاً بشرطة بيروت والمحافظة، «ونحن ننسق معهما».
ويذكّر بأن إرث المخالفات كان طويلاً عندما تسلّم شربل الوزارة «وأصحاب الإعلانات ظنوا أننا سننسى بعد فترة، لكنهم رأوا جدية التعامل وبدأوا بنزع المخالفات شيئاً فشيئاً». ويتهم مدلج أصحاب شركات اللوحات الإعلانية بأنهم «لا يتمتعون بروح المواطنة، وهدفهم فقط الربح المادي على حساب سلامة الناس»، مشيراً إلى أن انتشار الفيديو يعود لاستبدال بعض اللوحات العادية به؛ لأنه أكثر ربحاً.
يعزو مدلج المشكلة إلى أن «الترخيص لا يأتي من وزارة الداخلية إنما من رئيس البلدية، مما لذلك من تأثير للمحسوبيات، فيصبح هناك ابن ست، وابن جارية»، متمنياً إقرار تعديل المرسوم 8861 الذي ينظم هذا القطاع والذي يحتاج أيضاً إلى تعديل قانوني لكي يُبتّ (تعديل سحب الترخيص من رئيس البلدية، وتعديل الرسوم). ويشرح مدلج أن الوزارة اختارت طريق التروّي، لكن الأكثر موثوقية للوصول إلى هدفها، ويقول: «نسير على خطى سلحفاة، ولكن على خطى أكيدة».
وبانتظار تشكيل الحكومة، يبقى هذا الموضوع «الشائك والخطر جداً»، كما وصفه أمين سرّ الـ«يازا» يتقدّم بخجل، ويبقى المواطن اللبناني ضحيّة ضجيج إثارة ملف، ثم آخر، وآخر، دون إقفال أي مشكلة نهائياً، وضحيّة عدم وضع أبسط أسس السلامة العامة كأولوية لمن يجدر بهم حمايته. فالحجج يمكن إيجادها دائماً، أكان الوضع الأمني، أم السياسي، أم الاقتصادي، أما العمل الجدي في كل الظروف، رغم كل الأحداث، فهو حق للمواطن وواجب على المسؤول.